شعار قسم مدونات

أقلام على شفا حفرة من النار

مدونات - الصحافة التونسية

في بيت زجاجي تعكس جدرانه مظاهر التضييق والرقابة، وتعرض صور المخاطر والمجازف، وتجليات القهر ومضض العيش، يقبع الصحافي العربي ككرة مهشمة تتخبط بين هذه الجدران لا تجد مخرجا تكسر بها واقعها الأليم.

 

 إن الصحافي يدافع عن الحقيقة كأنه لن يموت أبدا، لكنه يخرج للبحث عنها وفي ظنه أنه سيموت غدا، فحياته محفوفة بالمخاطر ليس فقط أثناء عمله في أرض المعارك والنزاع، فلطالما كانت إمكانية إصابة الصحفي في أراضي النزاع تضاهي إصابة المحارب نفسه، ورغم أن هذه الحقيقة بهتت نصاعتها مع العصر الحديث المتعطش للحريات والديمقراطية، إلا أن الرصاصة الطائشة يمكن أن تصيبه كضريبة على التزامه بقول الحق ومعارضته لنظام بلاده الغاشم، ليظل الصحافي العربي مهددا بالتصفية والموت في أي لحظة سول له ضميره فيها أن يتمرد على الظلم والفساد.

 

لا يزال الصحافي العربي على وجه الخصوص يعيش في كهوف الماضي، إذ تحيط بعمله قوانين وتشريعات تذكره بأجداده وأسلافه من فرط قدمها وجمودها

إن الحق في الوصول إلى المعلومة تعبير واضح على حرية الصحافة، وقد ساهمت سرعة تدفق المعلومات في عصر "الميديا" إلى بتر محاولات الحكومة المعادية لحرية الصحافة في استخدام الدعاية كوسيلة للتعتيم والتضليل. لكن يبقى الخطر محيطا بالصحفيين المعارضين لأنظمة الحكم في بلدانهم، عبر التهديدات بالطرد من العمل والزج ضمن اللائحة السوداء وصولا إلى التنكيل والاعتقال والتعذيب، بذريعة ارتكابهم لجنحة نشر ما يهدد الأمن القومي والوحدة الوطنية، بل يصل الأمر إلى حد الاغتيالات المخططة والمفخخة. فأصبح تعكير صفو النظام العام ومعاداته خط أحمر، يؤدي تجاوزه إلى اصطياد الصحفيين واستهدافهم حتما.

ويعتبر سلسال الدم الذي لا تزال آثاره راسخة في الساحة الإعلامية الجزائرية منذ التسعينات إلى اليوم، خير مثال على تورط أنظمة الحكم في حصد أرواح الصحفيين الناطقين باسم الحق والحرية، فقد راح مئات الصحافيين الجزائريين ضحية لآلات القمع العمياء التي فرضت استبدادها ضد المطالبة بحرية الرأي والتعبير والكشف عن خيوط اللعبة السياسية التي وقعت البلاد في اشتباكها آنذاك، ورغم حجم الاغتيالات التي طالت الصحفيين في مختلف الوسائل الإعلامية بالجزائر لم يكشف ذلك حتى عن ملامح لتحرير الإعلام من سطوة السلطة وجبروت الجسد الحاكم.

فأنظمة الحكم عبر التاريخ قد استهدفت الجسم الصحافي ونخرته بالتضييقات وأرهقت كاهله بالعقوبات، ووضعته ضمن لائحة الأدوات التي يجب كبح تمردها وإزاحتها عن الطريق القويم بل واستغلال نقاط ضعفها من أجل ترويضها لخدمة المصالح والسياسات، فنجد مجموعة من البلدان التي ترفع لواء الديمقراطية والاعتراف بالحريات، تخبأ نفسها بكل وسائل التزييف والمراوغة لممارسة ما يحلو لها من الانتهاكات والتجاوزات في حقوق صحفييها الذين أعلنوا عزمهم على اقتلاع جذور الظلم وكشف المؤامرات السافرة التي تنهجها هذه الدول لتغييب الواقع وقتل أي محاولة تهدف إلى حصحصة الحق ورفع الغطاء عن الجنف، فيصعد بذلك زيت التضليل فوق ماء الحقيقة، إذ تروج هذه الدول لتعاملها الرحب مع الصحافيين وإتاحتها لجميع الظروف الكفيلة بإنجاح عملهم على أكمل وجه، إلا أنها تقفل الأبواب على من يريد الاطلاع على مطبخها الداخلي الممتلئ بحالات الانتهاكات الحقوقية ووقائع القمع والخناق والالتواء على التشريعات والقوانين، ليبقى الصحفي ضحية هذه الإستراتيجية الواهية والطرف الوحيد الذي يدفع الثمن على كل المستويات، فلا يقدر أن يتخلص من ضغوطات هذه الأنظمة وسطوتها ولا يتمكن من كشف حقيقتها بحرية واستقلالية.
 
ولا يزال الصحافي العربي على وجه الخصوص يعيش في كهوف الماضي، إذ تحيط بعمله قوانين وتشريعات تذكره بأجداده وأسلافه من فرط قدمها وجمودها، فالكثير من البلدان العربية لا زالت حبيسة ماضيها الاستعماري في ما يخص التشريعات الإعلامية، التي لم تستطع في جوهرها أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، ولم تواكب هذه الطفرات التكنولوجية الهائلة التي يعرفها العالم الآن، ولم تعالج القضايا المستجدة التي يجد الصحافي نفسه داخلا بالطبيعة في غمارها، فاقتصرت على نزعات متواضعة من الاجتهاد في قوانين تنظيم استعمال الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص.

    

المشهد الإعلامي والصحافي في العالم العربي تغشاه ضبابية عارمة وتكتنفه صعوبات مريرة
المشهد الإعلامي والصحافي في العالم العربي تغشاه ضبابية عارمة وتكتنفه صعوبات مريرة
   

كما أن هذه التشريعات غير متوازنة، حيث تفوق قواعد الزجر والتضييق تلك الخاصة بحرية الرأي والتعبير، ويلاحظ كذلك عدم الالتزام بالنصوص القانونية التي تنص على حرية الصحافة والإعلام. بالإضافة إلى التفاوت الحاصل في هذه التشريعات بين الصحافة المكتوبة والإعلام السمعي البصري، فقد غابت القيود على هذا الأخير باعتباره من أدوات ترويج الدول لسياستها، فتعاملت معه كمسألة أمن قومي لا حاجة لتنظيمه مادام تابعا لها. ولكل هذه الأسباب، فالاجتهاد في توسيع هامش الحرية في المجال لم يعرف صدى على المستوى العربي لأن الخوف من أن تطغى الحرية على مصالح أنظمة الحكم لا يزال متأصلا في قلوب سادة السلطة. 
 
وبالإضافة إلى سياسية الغلق والمصادرة، ووحشية الاعتداءات ومسلسل الملاحقة والمطاردة التي يتعرض لها الصحافيين، يعاني هؤلاء من تردي الأجور وصعوبة العيش، فالتضييق طال جيوبهم أيضا، حيث يرى الكثير من الصحفيين أن ذلك يحيل التخمين فورا ومنطقيا إلى محاولة الحكومات استقطاب الأقلام الحرة وتدجينها عبر تقليل رواتب الصحافيين وإثارة سأمهم من قصر أساسيات الحياة وتدني ظروف العيش، ومن ثم تظهر لهم الجزرة التي تستميل حواسهم، فيسقطون ضحية للاتجار بأقلامهم وقناعاتهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تطرح الصحافة المغربية رهانات تقتضي مراجعة الوضع الاعتباري والمادي للصحافي وتحفيزه للحفاظ على استقلاليته، ويرى البعض أن الصحافي المغربي مرتبط بالخط التحريري لمنبره الإعلامي، لكن تطور أداءه مرتبط بشروط مادية دون المساس بمبدأ الحرية.
 
إن المشهد الإعلامي والصحافي في العالم العربي تغشاه ضبابية عارمة وتكتنفه صعوبات مريرة، ولا يزال الصحافيون العرب ينددون بأوضاعهم المزرية، ولازالوا يقبعون في ذلك البيت الزجاجي الذي لم تظهر علامات على كسره إلى اليوم، وتبقى الحرية والاستقلالية شعارات محصورة بين ألسنة الشاهرين بها إلى أجل مسمى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.