شعار قسم مدونات

رسالة عبر البحر إلى صديقي الغريب!

blogs عجوز أن سبلاش

قلت في نفسي يوما وأنا أشاهد البحر الممتد أمامي مهابا كشيخ طاعن في السن، هادئا تارة كطفل وديع وهائجا طورا كامرأة غاضبة، أن وراء هذا الامتداد الشاسع شخص في الشاطئ المقابل يملي عينيه في الزرقة الواسعة، يطرح على نفسه ألف سؤال تلك الأسئلة التي لا نطرحها إلا ونحن في عزلة عن القيل والقال، ويعود أدراجه ممتنا كما أفعل وكأننا غريبين أرسلنا المحبة والسلوان لبعضنا البعض عبر الموج الهادر، وربت كل منا على روح الآخر، ويخيل إلي كما لو أن البحر "ساعي بريد" يأخذ أسئلتي مدا ويعيدها أجوبة جزرا وينسج حكاية لغريبين لن يلتقيا أبدا ولكنهما وضعا ركيزة لصداقتهما المتينة، الصداقة نفسها التي باتت تجمعها دائما وأبدا على نفس المكان من الشاطئين المتباعدين.

لقد شكلت الوحدة أو العزلة نمط عيش الكثير من الناس على غير طريقة الصوفيين أو الزاهدين عن متاع الحياة، فأصبح بإمكان الشخص ان يشكل عالما خاصا به لا يشاركه فيه أحد ولو كان وسط حشد مهول من البشر، أي أن الوحدة انسلخت عن مفهومها المعروف والمتمثل في الاعتزال عن الناس وانتقلت إلى مرتبة أكثر روحية وتعقيدا، فصار الإنسان يشتكي من كونه وحيدا رغم وجود أناس في محيطه يحبونه ويهتمون لأمره.

 

غير أن الأمر لا يصل إلى هذا الحد فقط بل إن هذه الأشياء البسيطة التي نعتبرها أمرا عاديا ومسلما به، لا يخصنا أو يهمنا في شيء قد شكلت مع مرور السنوات مجتمعا أنانيا لا يهتم أفراده ببعضهم البعض بل إن السؤال عن الأحوال صار تدخلا في شؤون الآخرين وفضولا غير مقبول، فنجد أن قيما كالصداقة والثقة والعائلة قد اضمحلت إن لم نقل انقرضت في حين صار الاهتمام بالأنا مفرطا وانتشرت مفاهيم جديدة كالنرجسية وانعدام الثقة بين الأصدقاء والأقارب.

اللقاءات والأحاديث العابرة، الابتسامات التي تأتينا من أشخاص غرباء، تثبت أن المرء مهما تفنن بوصف وحدته فسيبقى في حاجة لهذه الأشياء البسيطة التي تعطي معنى ليومه ولحياته

لكن الغريب في الأمر، انه مهما تقلصت علاقتنا مع المحيط الخارجي ومهما ادعينا عدم امتلاكنا لأصدقاء ورغم تشدقنا بالاكتفاء الذاتي من السعادة التي تحققه لنا الوحدة، إلا أننا لا ندرك اثر المحادثات القليلة والتحيات المقتضبة على يومنا المرهق، وننسى تماما أن هذه التفاصيل الصغيرة تفند فكرة الإنسان المستقل عن الآخرين ، السعيد بوحدته وعزلته .

تستقل سيارة أجرة وأنت في طريقك نحو عملك أو دراستك وطبعا لا تسلم من حديث السائق عن كل ما يخطر ببالك، ابتداء بغلاء الأسعار ومرورا بالكوارث الطبيعة والبشرية والشكوى الدائمة مما يحدث ولا يحدث وانتهاء بخصم صغير قد تستفيد منه لو كنت صبورا متجاوبا معه .الأحاديث العابرة الأخرى التي حدثت مع أشخاص قد لا تتذكر حتى وجوههم، كالمرأة المسنة في الحافلة، الطفل بائع المناديل، المرضى في غرفة الانتظار وغيرهم كثر، يختلف موضوع الحديث من شخص لآخر ويطول أو يقصر حسب تقبلك لهم وشعورك بالراحة تجاههم، حتى أن بعضهم يحمل أسرارا صغيرة عنك ولا بأس في ذلك ما دمت لن تقابلهم مرة أخرى.

 

الصداقات المؤقتة التي حدثت بينك وبين هؤلاء الأشخاص وشعورك بالألفة نحوهم رغم كونهم غرباء عنك لا يعرفون شيئا عن ماضيك أو حاضرك، عقدك أو حسناتك أو ربما أن السر بأكمله يكمن هنا، في غياب الأحكام المسبقة، في تعاملنا مع الغرباء كأشخاص لا يعلمون من نكون وبالتالي يبدون مسالمين ولا يشكلون أي تهديد.

اللقاءات والأحاديث العابرة، الابتسامات التي تأتينا من أشخاص غرباء وتغير يومنا برمته، أو التحيات والمباركات التي نلقيها ونتلقاها بمناسبة وغير مناسبة، تثبت أن المرء مهما تفنن في وصف وحدته وسعادته بها فسيبقى في حاجة لهذه الأشياء البسيطة التي تعطي معنى ليومه ولحياته، و لهذا فنحن في حاجة ليواسي الواحد منا الأخر ليبتسم له، و لنهون على بعضنا البعض عناء الحياة ما دام فينا عرق ينبض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.