شعار قسم مدونات

الدراما الرمضانية.. مجرد فن أم هندسة اجتماعية؟!

مدونات - مسلسل رحيم
ربما نتعجب ويصيبنا الذهول عندما نسمع أن تكلفة إنتاج مسلسل رمضاني أو مسلسل آخر، بلغت ملايين الدولارات، أو أنّ الأجور التي يتقاضاها المشاهير من الممثلين، أو الإعلامين؛ خيالية ومخيفة وللكبار فقط. نعم ربما نتعجب ولكن عندما نعلم أنّ الإعلام بمفهومه العام الذي يشمل الدراما، هو بمثابة سلطة حقيقية أو لنقل قوة ناعمة بيد الدول فتبثّ من خلالها رسائلها للمواطنين، وتعمل عبر هذه القوة الناعمة على هندسة الشعوب وتسييرهم ضمن نظام "القطيع" الجماعي، ومن هنا نسمع عن كلمة موضة، أو نلاحظ سريعًا انتشار مفردات معينة على لسان الشعب، أو تصرفات ما فعلها أحد المشاهير خلال المسلسل وما إلى ذلك، بينما يبقى الأهم من الموضة وما شابهها؛ ذلك التأثر الشعبي "الحسي"؛ والذي يعني القدرة على توجيه أفكار هذا الشعب، أي ما يعرف بـ هندسة العقول.

 
درجت العادة أن تفرز الدرما العربية عن "إبداعاتها" في شهر رمضان طيلة أيامه الثلاثين، بينما يتخلل السنة أعمال أخرى، إلا أنّ الأعمال الدرامية في رمضان تكون ذات أهمية بشكل أكبر وأقوى، وذلك كونها تستهدف جمهورًا أكبر وأوسع، ومن كافة طبقات الشعب.

 

إذا كنت كاتبًا صاحب أفكار نبيلة طموحة، أو كان في جعبتك الأدبية أعمال تظن أن الناس ستهرول وراءها وأنّها ستلقى رواجًا كبيرًا؛ فللأسف أفكارك النبيلة وأدبك الرفيع لا يمكن له أن يحظى بأي دعم وراج ما لم يكن هناك شيء اسمه "شركة إنتاج" والتي بدورها تعمل على انتقاء مشاهير يضمنون لها نجاح المسلسل من جهة، وتدرس الفكرة بحد ذاتها هل يمكن تجسيدها أم لا، كما أنها تهتم بشكل خاص في موضوع رسالة أو هدف هذا العمل الدرامي، خصوصًا إن كان سيجعلها تدخل في معركة مع الدولة. ليس حديثني هنا عن شركات الإنتاج وعملها، فأبقى عبارة عن مطلع بسيط على هذا العالم ولا أريد الحوف في شيء لا أملك الاطلاع الكافي جولة، ولكن ما يهمني هنا تسليط الضوء بالشواهد والأمثلة؛ على طريقة إدارة الدراما لعقولنا.

 

من الذي أفسد مفاهيم الزواج في عين الشباب الذين يقتحم هذا العالم بلا عدة ولا عتاد، وسرعان ما ينصدم بأن واقع الزواج مختلف عن تلك الرومانسية التي شاهدها في فيلم أو مسلسل ما

في هذا الموسم الرمضاني 2018، نشاهد الكثير من المسلسلات التي لا يمكن إحصاؤها فضلًا عن متابعتها كلها، وفي كل مسلسل ستجد هناك رسالة من ورائه، تحاول إقناع المشاهد أن أحداث المسلسل تعكس واقعنا الذي نعيشه. مثلًا مسلسل هارون الرشيد بطولة قصي خولي ومن إنتاج شركة سورية ودعم من أبو ظبي، نرى بوضوح الإنتاج الباهر من حيث الملابس والتصاميم وما شابه، ومع أن الأحداث تدور في فلك تاريخي درامي نرى أن الرسالة من وراء هذا المسلسل هو تسليط الضوء على التدخل الفارسي في البيت العربي الداخلي، عن طريق قصة البرامكة الفرس ونكبتهم مع هارون الرشيد الحاكم العربي القوي.

  
إليك مسلسلان على قائمة المسلسلات المصرية لهذا العام، "عوالم خفية" بطولة عادل إمام، و"رحيم" بطولة ياسر جلال، في هذين المسلسلين ترى بوضوح تبييض صورة الأمن وتسليط الضوء على عمل الشرطة بشكل أقرب، وأنّ عناصر الأمن الوطني مخلصون يعملون للدولة وليس لنظام بعينه، أو أنهم يصلون ويعبدون الله، وبالطبع أنا لا أدافع هنا عن هذه الأفكار ولا أهاجمها، ولكن ما يهمني أن نفسهم كمشاهدين عرب أن هذه الأعمال الدرامية مصنوعة لبرمجتنا بشكل ما.
 
الهندسة الاجتماعية ليست عبارة عن خيال أو أسطورة، بل حقيقة ومع هذه العولمة المبهرة بتنا نرى الهندسة الاجتماعية عن كثب وفي كل وقت، من الذي صوّر لنا أن المثقف هو الذي يتحدث نصف حديثه بكلمات أجنبية لا يفهمها معظم المستمعون الذين لا يتحدثون بلغة هذه الكلمات، بل لهم لغتهم وثقافتهم ووجودهم الذاتي الكياني. من الذي صوّر لنا أن الشباب المتمدن هو الذي يأكل الوجبات السريعة، وتكون له صديقة لا يفتران عن تناول القبلات! من الذي أوحى لنا بأكثر العادات الاجتماعية التي بتنا نراها واقعًا لا مفرّ منه؟!

 

من الذي أفسد مفاهيم الزواج في عين الشباب الذين يقتحم هذا العالم بلا عدة ولا عتاد، وسرعان ما ينصدم بأن واقع الزواج مختلف عن تلك الرومانسية التي شاهدها في فيلم أو مسلسل ما، ليقرر الطلاق، ولذلك لا تستغرب عندما تقرأ الأرقام الصادمة عن نسب الطلاق في بلداننا العربية.

 
أخيرًا أقول أنّ علينا أن نكتب الكتب والمقالات والأبحاث بوضوح أكبر وبعمق واسع عن هندسة العقول من وراء الأعمال الدرامية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.