شعار قسم مدونات

أفسدتني يا أبي!

blogs - شباب أبيض وأسود كئيب
روي عن الإمام الغزالي رحمه الله أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن المبارك يشكوه عقوق ابنه فسأله ابن المبارك: هل دعوت عليه؟ فقال الرجل: نعم. فقال له عبد الله بن المبارك: أنت أفسدته!
 

أنت أفسدتني يا أبي، يا لها من صرخة عميقة جدا من دهاليز أرواح الكثيرين والكثيرات من الشباب والرجال والنسوة، وهم ينظرون ويتفحصون وجوه آبائهم المسطرة بتجاعيد الحياة القاسية المرهقة العنيدة. ينظرون إليها وشريط الزمن يعود بهم إلى حيث المشاكسات والمشاعبات وافتعال المشاكل مع الآخرين، بعفوية تارة وتارة أخرى لمحاولة إثبات الوجود! يتمعنون في تلك الوجوه الشاحبة التي تُقرأ في صفحاتها كل الحياة، سعادة وشقاء صحة ومرضاً. ولكن تلك التواريخ كلها المخطوطة على وجوههم لا يمكنها أن تنسي تلك القساوة التي كان يتلقونها من أولئك الآباء. وكثيرا من الأحايين ما كانت تردفها دعوات قاسية لو مزجت بماء المحيطات والبحار لمزجتها من هول ما تحويه من بشاعة اللفظ وضخامة المبنى.

 

سيقول بعض الأولياء هو غضب نتيجة شقاوة لابن شقي أو ابنة شقية في مرحلة كان لابد من وجود بعضها لفطرة إنسانية متلازمة الوجود. ولكن جهلا منهم أنهم لا يدركون أن دعوة واحدة منهم على أبنهم أو ابنتهم تزامنت واستجابة الدعاء في السماوات العلا، لأصبحت وبالاً على أبنائهم عمراً مديداً. فلِمَ لا، أيها الوالد الكريم ويا أيتها الأم الحنون، لماذا لا تكون دعواتكم لأبنائكم بدل أن تكون عليهم فتهلكهم ويضروك! لِمَ لا تدعون لهم بالهداية والصلاح سرا وعلانية لو أنهم أخطأوا وتجاوزوا! ولِمَ لا تكن دعواتكم لهم بالثبات على الخير والفلاح لو احسنوا الصنيع وافلحوا في البديع!

 

ومن ذا الذي يقول أن التربية قسوة بعد كل هفوة؟ من ذاك الفهيم الذي اقنعكم أن العنف سبيل من سبيل الاستقامة والتقويم؟ أيكفيكم حجة عن هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن الرفق حيث قال: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إن الله رفيقٌ يحبٌ الرفق في الأمر كل﴾ متفق عليه. وعنها رضي الله عنها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه﴾ رواه مسلم. وعنها رضي الله عنها كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ، ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانهُ) رواه مسلم.

  

تلكُمُ فلذات أكبادكم، زينة حياتكم الدنيا، فرقا بهم من حجيم دعواتكم، فيكفيهم أنهم ولدوا في عالم ظالم ظالم ظالم، فاتلوا عليهم وأمطروهم بما حسن، يسعدون هم وتقر أعينكم بهم

وقال ابن القيم – رحمه الله – في نونيته المشهورة: وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل يعطيهم بالرفق كل أمان من أسمائه سبحانه الرفيق وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور والتدرج فيها، وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم كان رفيقا حتى مع أعداء الله وأعداءه وأعداء دينه الحق. وعلى عجل أذكركم ببعض الومضات البراقة من حياة سيد الخلق علها تكون ذكرى لكم ومصباحا ينير عقولكم: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود: السام عليكم (الموت عليكم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليكم، قالت عائشة رضي الله عنها: السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا عائشة!! عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش)، فقالت عائشة رضي الله عنها: أو لم تسمع ما قالوا، فقال الرسول صلى عليه وسلم: (أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم – فيستجاب لي ولا يستجاب له) رواه البخاري.

 
ومن المواقف الخالدة لحبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم: ﴿ عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه (أي أترك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرفوه دعوه (لا تقطعوا بوله)، فيترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال له: إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه دلواً من الماء. فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد تحجرت واسعاً) -أي ضيقت واسعاً- متفق عليه.

  
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً وأحسنهم تعليماً وأرفق الخلق بالخلق،، صلوات الله وسلامه عليه. فعلى الإنسان أن يكون رفيقاً في جميع شؤونه، رفيقاً في معاملة أهله، وفي معاملة إخوانه، وفي معاملة أصدقائه، وفي معاملة عامة الناس يرفق بهم، فإن الله عزّ وجلَّ رفيقٌ يحب الرفق ) تلكُمُ فلذات أكبادكم، تلكُمُ زينة حياتكم الدنيا، تلكُمُ هم أبناءكم، فرقا بهم من حجيم دعواتكم، فيكفيهم أنهم ولدوا في عالم ظالم ظالم ظالم، فاتلوا عليهم وأمطروهم بما حسن، يسعدون هم وتقر أعينكم بهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.