شعار قسم مدونات

لغتنا العربيّة واحتضار السّياق

blogs - اللغة العربية

ربّما لا أكون متخصّصاً في علوم العربيّة بشكلٍ مباشر، غير أنّي كناطقٍ بها ومتذوقٍ لشيٍ من لذاذاتها وسِحرها، أجدُ نفسي مديناً لها بقرع أجراس الوجدان، ما أسعفني إلى ذلك فيض البيان، إعذاراً وإنذاراً. أمّا مكمن الخطورة المقصود فهو الخشية من فوات الأوان ووقوع المحظور باحتضار أذيال الكلمات ومتعلّقاتها من روح المعاني والدّلالات، والّتي هي للكلمة بمثابة الرّوح من الجسد، أو كماء الحياة بالنّسبة للسمكة. وأقصد هنا على وجه الدّقة "سياق الكلمات" وهو الحيّز المعنوي الذي تسبح فيه الكلمة قَبلاً وبَعداً، مع ما يتولّد عن هذه اللّوحة من معانٍ تتشكّل انطباعاً في ذهن السامع أو القارئ، بحيث لا يمكن بحالٍ أن يتولّد ما سبق عن كلمةٍ مجرّدةٍ مُجتَثَّةٍ عن سياقها، مُنتَشَلةٍ من بحر مائها.

وإن شئتَ غايةَ المقال، فليست الخشية من احتضار الكلمات بذَواتِها المعهودة، فالقرآن كان وما يزال وسيبقى ضامناً يحول دون ذلك. ولكنّ الاحتضار المحذورَ إنّما هو واقعٌ بأفهامنا ووعينا وإدراكنا المضمحلّ والآخذ بالذّويّ تدريجياً لتلك الكلمات بمساحاتها السّياقيّة الطبيعيّة المحيطة بها، جيلاً إثر جيل. ولك أن تتخيل هذا الكمّ الهائل من الكلمات التي شيّعها آباؤنا وأجدادنا إلى مثواها الأخير الكائن في برزخ القواميس المهجورة المقفرة، سواءٌ عليها أَدُفِنَتْ ورُتِّبَتْ حسب أوائل الكلمات أو أواخرها.

الأمر بسيطٌ للغاية، يكفيك أن تتصفح القاموس سريعاً.. إنّ كلّ كلمةٍ لا تستخدمها، أو لا تفهمها اليوم على وجهها، أو تستخدمها في بعض سياقاتها دون البعض الآخر، أو لا تكاد تدرك حقيقة أبعادها، إنّما هي في الحقيقة موءودةُ إهمال الآباء والأجداد، فقد كانت يوماً ما حيّةً ذات سياقات نابضة بالحياة. فإن قلتَ: إنّها موجودةٌ الآن بالفعل في القاموس، وهأنذا أراها وأتلفّظ بها، وقد سُطر إلى جانبها أنّ معناها: "كذا،" سأقول لك: إن كنتَ تعتبر أنّ أجساد الفراعنة المودَعَة في أهراماتهم، والمحنّطة في توابيت ذهبية، إن كنتَ تعتبرها على قيد الحياة، فأنت إذاً محقٌّ، وبالأخصّ أنّ كلّ واحدٍ منهم قد نُقشت سيرته على تابوته بماء الذهب، بأنّه إله مصر و حاكمها..و..و… فهل من عاقلٍ يُسبِغ اليوم وصفاً من هذه الأوصاف على واحدٍ من هذه الرِمَّم؟!

إن كان تعلُّمُ لغةٍ أو لغاتٍ ثانية وثالثة، ضرورةً لا بدّ منها، فإنّ قصارى المطلوب هو
إن كان تعلُّمُ لغةٍ أو لغاتٍ ثانية وثالثة، ضرورةً لا بدّ منها، فإنّ قصارى المطلوب هو "إدامة الرِّيّ" لهذه الفسائل الصّغار بنُسْغٍ لغتنا الأم وعدم "إحلال" أي بديل محلّها
 

كذلك الكلمة، أخبرني بربّك ما الفائدة من كلمة هي كالجثمان المحنّط المحفوظ جسداً والعديم روحاً ومِراسَاً لتقلّبات الحياة بألوانها! نعم، قد تضطرّنا غربتنا عن لغتنا العربية إلى الاستعانة بالقواميس، ولكنّني أشكّ بأنّ قراءة سيرة أيّ عظيمٍ من العظماء ستنفخ فيه الرّوح ليمشي بعدها بين الأحياء كواحدٍ منهم. نعم، الكلمات القاموسيّة دررٌ، ولكنّها منثورةٌ هنا وهناك، تفتقر إلى "عِقْدٍ سياقيّ" ينتظمُها لتسْحرَك بعد ذلك برونقها البهيّ الأخّاذ، والخشية كلّ الخشية من ضياع هذه الشواهد من السّياقات بما تكتنفه من معانٍ نابضة بالحياة، لتبقى الكلمات حينها جثثاً هامدة يعبث بها كل عابث بدعوى الاستنطاق والتّجديد.

تفتيت الجواهر

ربّما اضطرّت الظروف الكثيرين من النّاطقين بالعربيّة في زمننا الرّاهن لمغادرة بلادهم إلى بلادٍ أجنبيّة، فقام البعض منهم عن جهلٍ أو عن جهالةٍ بخطيئةٍ كبرى، ألا وهي تفتيت هذه المَلَكةِ الجوهرةِ في ذوات أبنائهم ألا وهي "مَلَكَة اللّغة الأم"، الموهبة التي لا تقدّر بثمن، إذ يدفعُ عشّاقُ العربيّة من غير العرب الغاليَ والنّفيسَ، وينحتون الصّخر، ليتلمّسوا مِعشارَ معشارِ ِما نبذناه في يمِّ جَفْوَتِنَا من كلماتٍ بسياقاتها…، بمعانيها…، بخيراتها.. جريمة تامّة الأركان تتمّ تحت ذريعة الاندماج مع الآخر، الآخر الذي لا يطالبك أصلاً في كثير من الأحيان بأن تطمس هويّتك ولغتك، ولكنّنا في أحيانٍ كثيرةٍ نحبّ أنْ نكون مَلكيّين أكثر من الملك ذاته.

إن كان تعلُّمُ لغةٍ أو لغاتٍ ثانية وثالثة، ضرورةً لا بدّ منها، فإنّ قصارى المطلوب هو "إدامة الرِّيّ" لهذه الفسائل الصّغار بنُسْغٍ لغتنا الأم وعدم "إحلال" أي بديل محلّها، حتى تثمر يوماً ما ثماراً هي وعيُ أمتنا، ولسان حال ماضيها، ورهان مستقبلها. متوخّين مع ذلك بعض سبل إحياء العربيّة كلمةً وسياقاً ومنها:

* إحياء فريضة تدارس القرآن بكلّ وجوه التّدارس والعربيّةُ من هذا ركنٌ ركين.
* استنهاض النّصوص الرّصينة (قديمها وحديثها) -وما أكثرها- شعراً ونثراً، تذوّقاً كأولويّةٍ قصوى، ودراسةً وتدريساً ضرورةً حتميّةً.

مع اعتبار أنّ كل ما سبق إنّما هو إحياءٌ واستنهاضٌ للذائقة الكامنة في ذواتنا، وجلاءٌ لمرآة فهمنا لما انعكس عن كلماتٍ عربيّة بسياقاتها، بدلالاتها، بمساحاتها، لطالما حُفِظَتْ مدَّ العصور بحفظ الله تعالى لكتابه مِنَّةً وتفضُّلاً، فهل من مُدَّكِرْ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.