شعار قسم مدونات

أن تواجه نفسك أولا

blogs تأمل

لكل شخص منا رقعة مظلمة في دواخله لا يعرف عنها سواه، تختلف أبعادها حسب التجارب والماضي الذي عاشه وعايشه، تلك الرقعة التي تطؤها قدماه حين لا ينعم بنومة هادئة لتأتيه. والتي يتراكم بداخلها الماضي كالحجارة مشكلا جدارا ينزل بثقله على كافة زوايا الروح ليصبح للأفكار والذكريات صهيل جامح لا يتلاشى بمرور الزمن، فيفقد هذا الأخير فعاليته وتتلاشى رغبة الإنسان في مواصلة الحياة اليومية التي يعيشها، ويمسي وجوده فيها مجرد صورة مترهلة حاصرها الزمن وألبسها وشاحا من الشحوب عدى قليلها.

ولعل أقوى المعارك وأصعبها هي التي يخوضها الإنسان ضد نفسه، كيف لا وهي تجمع خصمين متشابهين ومتطابقين، حيث تحاربه نفسه بنفس الأسلحة التي حارب هو بها غيره يوما ما وكسب المعركة لصالحه. إنها المعركة التي كان يهابها والتي لطالما تفادى خوضها، فلا أحد يرغب في مجابهة أناه ليتيه بين ما تفرضه الأنا العليا وما يمليه الهو فيعيد التساؤل من جديد عن حقيقة كون الإنسان مسيرا أم مخيرا. ولعل معظمنا لم يعش تجربة الوقوف أمام روح عارية سواء كانت روحه أم روحا أخرى صادفها في زحام الحياة، بل ولم تسنح له الفرصة أن يكتشف أنها تجربة تضاهي جرأة الوقوف أمام جسد مكشوف حيث يظل للدهشة الحظ الأوفر بين ما تحمله التفاصيل من مفاتن وندوب تحمل في طياتها كما هائلا من الحكايات التي حجزت في دهاليز الماضي والنسيان.

ولعل العبث الذي يتغلغل في أعماق الشخص ووعيه يجعله يعيش حالة من التشتت بين الإيمان والشك، وتعد فكرة الوجود والهوية من أكثر التساؤلات التي تصاحب فترة (overthinking) حالها حال أغلب المفاهيم التي تتجاوزنا كأفراد فيصعب عليه التفريق بين كونها صورة ذات أبعاد تجسد ما صاغه المجتمع والفرد على حد السواء، أم مجرد مصطلحات تم اغتياله بها كإجابة سطحية لأسئلة يصعب الإجابة عنها.

لعل أقوى المعارك وأصعبها هي التي يخوضها الإنسان ضد نفسه، كيف لا وهي تجمع خصمين متشابهين ومتطابقين، حيث تحاربه نفسه بنفس الأسلحة التي حارب هو بها غيره

ولعل ضغوطات الحياة والقلق تعد عاملا أساسيا في جعل المعركة أكثر حدة وسمية ما قد يجعلها تستمر من غير هزيمة أو نصر ملموسين، فأحيانا يفقد الشخص القدرة على التعرف على المغزى الحقيقي منها خصوصا عندما يتسلط الجمود والرتابة على الفكر من غير هدف واضح، ولربما تعد هذه المرحلة الأكثر صعوبة في المعركة لأنها تفتح الباب لحملة من النوايا الصامتة فيصبح التفكير عملية متعبة تحتاج للصمت في أغلب الأحيان الذي قد تفوق ضوضاؤه قدرة التظاهر بالعكس.

 

وكعازف فقد السيطرة على أنامله عند لمس الأوتار وهو يعزف سنفونيته الطويلة تتمرد عليه نفسه وتبدأ المشاعر في الازدحام والاختلاط، فتهاجمه وتعتصر قلبه وتتركه لهذيانه من جديد لتعاود الكرة كلما سنحت الفرصة لها بذلك أينما رحل وارتحل دونما تمييز، ويهاجمه طيفه من كل النواحي، بين زحام الناس والأرصفة، بين دفاتره ووسادته، أو حتى سريره ورغم هروبه المستمر يحكم قبضته عليه في لحظة تعبر خلالها ريح الخوف تجاويف قلبه الداخلية، وتتجاوز الفرضيات إطار فكره، ليعلم أن اللقاء ليس بذلك السوء الذي تخيله وأن جزر المعركة كان أقرب إلى مدها، وأن طيفه كان غيما فتح له انبثاقات في وجه سماء صافية ما كان ليعلم عنها شيئا لولاه.

وبعد كم هائل من الأسئلة التي كان يجد الشخص نفسه عاجزا عن تقديم أجوبة شبه مقنعة أو شافية لها، سيتساءل عن سبب كل ما يحدث هل كان ذلك بداية اكتئاب أم مجرد افتقار للمرارة اللامبالية، ليسأل من جديد هل كان لابد لكل هذا أن يحدث؟ هل كان لابد أن ينصت للدم الخافق في صدغه حين يعجز عن الإجابة عن تلك الأسئلة الكونية بالطريقة التي يريدها هو لا التي يريدها الأخرون؟ هل كان من الضروري خوض المعركة لوحده ليكتشف ان الرقعة المظلمة تتزين بهالات نور وروحانية وأنه فعلا إنسان جديد أنجب من رحم الحياة مرة أخرى؟ ليبقى التساؤل الأكبر هو "هل تكفي حقا معركة واحدة مع النفس لتحقيق السلام الداخلي أم أنه صراع أبدي لا ينتهي بانتهاء الإنسان؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.