شعار قسم مدونات

لو كان السرطان رجلًا لقتلته!

blogs مستشفى

جاء خبيث لكنه يرتدي ثوب حميد، مرض "الموت" في الحياة، مصاب الأهل وخوف اللحظات.. اللحظة في ساعته الجديدة، عمر طويل ولكنها لحظة لن تكرر.. اغتنموها.

المريض

لم يكن يشتكي من أي وجع قليلًا ما يمرض وقليل من النعنع خير دواء، لكن هذه المرة أضطر لزيارة الطبيب، فطلب منه القيام بعمل بعض الفحوصات والأشعة للاطمئنان عليه والقدرة على تشخيصه جيدًا، كان الطبيب هو صديقه المقرب، ويعلم تمامًا أن صديقه لن يفعل.. فشد على يديه وقال: سأنتظرك السبوع القادم!، فابتسم قائلًا: على الله سأشرب النعنع وربما قليل من الليمون؛ لا تقلق أنا بخير، أنتم الأطباء زيارتكم دائمًا مُتعبة واتكأ على الكرسي حينما شعر بألمٍ في أسفل الرأس وسلم ومضى في طريقه؛ ليمر عام على هذه الزيارة ليعود إلى نفس الطبيب ويشتكي من نفس الشكوى فلا يطلب منه شيء، ويأخذه بنفسه للقيام بالفحوصات اللازمة.

بعد ثلاثة أيام طلبه الطبيب، على غير العادة لاستلام نتائجه، لم يشعر أحمد أن صديقه به شيء فقط اهتمام من صديق ليس إلا، ذهب إليه ولم ينتظر دوره للدخول كالعادة بسبب التعليمات التي قالها الطبيب لممرضته الخاصة.. حينما دخل الغرفة كان الطبيب ينظر إلى الأشعة المُعلقة على يساره، وينظر لـ"أحمد" بالتبادل، فبادر "أحمد" بسؤاله مُلطفًا: "إيه يا أسامة إنت هتعمل دكتور عليا ولا إيه؟".

صمت "أسامة" طويلًا حتى أجاب الصمت على سؤال "أحمد"، وبدأ الشك يساوره ولم يضغط "أسامة" أكثر بصمته.. وقال: "أحمد أنا اتصلت بيك كام مره أقولك على الأشعة وانت ما بتسمعش الكلام.. كان ممكن يكون الوضع أفضل من دلوقتي". أحمد: "خير يا أسامة إيه المشكلة، الأشعة مالها؟" أسامة: "أنا آسف يا أحمد إنت مريض "cancer" والحالة متأخرة".

انكسار
تسرب الخبر من فم إلى آخر، وكل فرد جديد بدموع جديدة، دموع ترى الموت ولا تلمسه، تشعر به يلتف حولهم كل يوم يقترب جدًا

كصوت الزجاج حين يرتطم بالأرض، كـ.. انكسار الموج من الصخور في الليل، كـ.. انكسار قلب لا تسمعه ولا يسعك إمساكه وترميمه قدر ما حاولت.. لحظه بين عُمرٍ مضى، وآخر يأتي وبأي شكل سيأتي؟ وكم سأبقى؟ وكيف ستكون نهايتي! الأحلام التي لم يعد لها قيمة والخوف من خوض المعركة، التي لم تتمنى يومًا أن تُصبح فارسًا فيها، لقد شَهدت من قبل على المعارك التي سبقتك، لم يكن هناك ناجيًا! العدو أقوى، أقوى بكثير وإن أوهمك ضعفه في البداية، فإنه يتمكن منك رويدًا رويدًا، ينتشر في زوايا لا تصل إليها العيون، وربما يأتيك عونًا من -المضادات- فيختفي لكنه سرعان ما يعود، يعود قاتلًا متجبرًا أقوى من ذي قبل.

أهل المريض

لن تخبر الجميع، رغم أنك تود لو أنك احتضنت الجميع دفعة واحدة، وأخبرتهم كم أنت مُحتاج لهم، بكل الأنانية التي تملكها، أردت أن تسمح لنفسك بذلك.. لكنك زهدت في حقك وأسررت في نفسك ونسيت عهدكم -في السراء والضراء- لا تَنسى. تسرب الخبر من فم إلى آخر، وكل فرد جديد بدموع جديدة، دموع ترى الموت ولا تلمسه، تشعر به يلتف حولهم كل يوم يقترب جدًا، ويبتعد يومًا حتى.. يظن الجميع أن هناك أمل فيعود سريعًا مُحطمًا كل الأمنيات؛ أهل المريض يكترثون لحاله في أول المصاب ويعتادون في منتصفه ويألمون قُبيل الوداع، ولسان حالهم لو أننا نعود فنخبره لو أنه هنا فيدركنا.. ومنهم من إذا وَدع حبيبه تَودع بعده.

لطف خفي

تمنيتُ لو أنني لم أُبكي أحدًا بسبب الكلمات التي عافرت في إمساكها وألا أضغط على الجرح المنفي في بلاد بعيدة، أو أُصارح بحقيقة تَهدم أملًا زائفًا رغم أنه -هين على الله- فقلتُ أين "اللطف الخفي"، الذي أتحسسه أينما ذهبت، اللطف موجود يا صديقي فقط أنظر ببصيرتك؛ ربما جاء المرض إلى أسرة مشتتة فجمع بينهم وأعاد الحياة لبيتهم، نعم مرض أعاد الحياة!، وأيقظ الشاب من غفلة فعاد إلى الله، وتركت الفتاة معصية.. عندما كان الموت قريب مقيم ينتظر اللحظة، كان الجميع في لحظة تأهب، تعطر البيت بالقرآن بعد هجر، لقد كان لطفًا عظيمًا لو تعلم، ربما هذا التغير كان سيحدث في أعوام لكنه بفضل المرض كان في لحظة -اللحظات العمرية بساعة المريض- لا تنسى.

وليست نهاية

من يتمنى الموت بصدق؟ هل يضمن؟ كلنا بلا استثناء حتى العلماء بشر خطائين، فمَنح الله المريض مِنحة الخلاص من الذنوب، بكل لحظة آلم فيذهب عنده بإذن الله بصفحة بيضاء، فينهي رحلته الدنيوية.. وهو يعلم قبلًا أن أيامه معدودات، وفي هذا لطف آخر فهناك وقت لـ يتوب ووقت ليرجع، ليسامح ويتسامح هناك وقت للوداع. وتبدأ الرحلة الثانية والأخيرة، عند -سدرة المنتهى- سينتظر الراحلون أحبابهم هناك، وإن كنا لا نرى شيء منها فلننظر في قلوبنا، هناك شيء سيخبرنا أنها ليست النهاية وإن كنت لا تؤمن أنظر إلى السماء في ليلة مقمرة لا تحدث القبور هم في السماء هم في قلبك.. ستُرشدك النجوم عن مكانهم. ورغم ذلك.. لن أتراجع في قولي "لو كان السرطان رجلًا لقتلته!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.