شعار قسم مدونات

لا تنفروا الأطفال من بيوت الله!

blogs - children1
حديث الأصدقاء طيب الوقع على القلب لا يمل منه مهما طال، لا يثبت على موضوع واحد وإن بقي في فلك الذكريات، وفي فلكها درنا مع ذكريات المسجد وتعنت الكبار وسوء معاملتهم لنا ذلك الوقت بداية من نظرات الازدراء ورغبات الازدراد إذا ما أحسن أحدنا خاصة إذا ما أجاد ما لا يجيد ذاك الكبير، وليس ختاما بالتأخير لأواخر الصفوف والحرمان من الصف الأول وإن كنا في المسجد من قبل الصلاة وبخاصة في رمضان حينما يضرب المساجد الزحام.

كانت تلك المواقف جارحة مريرة الوقع على قلوبنا ولازالت كذلك فالسبة حينما تكون بالأم وفي وسط المسجد بلا ذنب أو جريرة؛ لا يمحو أثرها مرور السنين والمرات التي حرمت فيها الصف الأول رغم تبكيري لمجرد أني صغير لا أحسبها تنسى كذلك ولكننا فرقنا بين المسجد وبعض رواده من المتعجرفين وبين دين الله ومن لم يتهذبوا به من معتنقيه وهو ما لا يحدث مع كثير من الصغار فينفروا من المساجد وروادها أجمعين ليصيح بعدها الشيوخ على المنابر سائلين أين الشباب؟ وصارخين ضاع الشباب، ومتحيرين لماذا من بيت الله ينفرون؟ 

  

ما كان الرسول صلى الله عليه و سلم يعنف صبيا إذا أخطأ، يقول صلى الله عليه و سلم "علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف"

والإجابة قريبة جدا من الخطيب على بعد قدمين من منبره يجلس الحاج فلان المتخصص في تأخير الصغار إلى الصف الأخير والحاج فلان ذو الصوت الجهوري المرعب الخبير في ترويع الصغار وطردهم من المسجد وأشباههم كثيرون فالأولى بهؤلاء الشيوخ أن يعظوا الحاج فلان متخصص الطرد والحاج فلان متخصص التأخير في الصفوف ومن على شاكلتهم فيحلوا المشكلة من جذورها، فالمسجد الذي هو محضن التربية ومدرسة التهذيب وواضع اللبنة الأولى لدين الله في قلوب هؤلاء الفتيان الصغار صار في أنفسهم كالحمى يحيطه جدار عظيم يعلوه سياج شائك وتغلقه المتاريس العظيمة، يحرم عليهم تخطيه أو الاقتراب منه.

 
ولكن"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أحلم وأرفق ما يكون بالصغار يلعب معهم ويوجههم ويعلمهم ويربيهم بالرفق حينا والحزم حينا، يرفع من قدرهم ويحملهم المسؤوليات ويكلفهم بالمهمات، حتى إذا ما شبوا كانوا أسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر رضوان الله عليهم أجمعين. 

فما كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلو من الصبيان أبدا، وهذا الحسين رضي الله عنه صبي يرتحل ظهر رسول الله وهو يصلي بالناس فيطيل السجود حتى يقضي الحسين حاجته وينزل، و ما كان الرسول صلى الله عليه و سلم يعنف صبيا إذا أخطأ فيقول صلى الله عليه و سلم "علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف" فكيف بفتى دخل مسجده ليصلي وغلبت عليه فطرة الطفل فجلس يلهو، بل هو مما يحب صلى الله عليه و سلم و قد كان يلعب مع الصغار ويلاطفهم فعن عبد اللهِ بن الْحارِث، قَال "كان رسول اللهِ صَلّى الله عليه وسلَم يصف عبد الله، وعبيد اللهِ، وكثيّرًا بني الْعبَّاس، ثمَ يقول: "مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا" قَالَ: فيستبقون إِليه فيقَعونَ على ظهره وصدْرِهِ، فَيقبّلُهمْ ويلْتزمهمْ".  

ومن حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، ‏ وكانَ لي أَخٌ يقَال له أَبو عميرٍ‏ وكانَ إِذَا جاءَ قَالَ "يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ" ‏ -والنُغَر هو العصفور الصغير-"، وما كان عليه الصلاة و السلام يؤخر فتى سبق كبار القوم إلى الصف الأول فهو أحق به منهم لسبقه؛ فالرسول لم يكن لينزل من قدر أحد لسنه، فهذا رسول الله يستأذن فتى صغيرا جلس عن يمينه أن يمرر القدح للأشياخ فيشربوا قبله وهو أصغرهم فيأبى الفتى أن يؤثر أحدا بفضل رسول الله فيؤثره الرسول صلى الله عليه و سلم بفضله ويرفع من قدره أمام شيوخ الصحابة فإنما مثل الفتيان الصغار كالسراج شديد الشعاع يطلب من يزيل عنه غطائه ويرفعه كي يملأ المكان نورا وإلا فهو إما يحرق نفسه أو يحرق ما حوله و قد لمست من شعاع ذلك السراج في موقفين. 

   

إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه والأمة كذلك بفتيانها الصغار ونبتها الغض الطري الذي إن احتضنته المساجد كان لهذه الأمة حديقة شوك ترد عدوها

أولهما أني كنت عصر الثاني من رمضان قد جلست أقرأ وردي في المسجد فاقترب مني فتى صغير حاملا مصحفا كبيرا وقال "يا عماه أريد أن أقرأ القرآن"، فابتسمت قائلا "وما يمنعك يا صغير افتح المصحف واقرأ"، فرد خَجِلا "لا أعرف كيف أقرأ منه وأريدك أن تعلمني"، انشرح صدري لقول الفتى وطلبت منه الجلوس وفتح المصحف و سألته هل تستطيع القراءة فنفى، وقعت في حيرة عجيبة فلا أستطيع صرف الفتى وقد انشرح صدري له ولا أعرف كيف سأعلمه وهو لا يستطيع القراءة ولكن همة الفتى وعزيمته اللتان تلمعان في عينيه أخجلتني عن رد طلبه، فجلست أحاول معه في تهجئة الكلمات وأحفظه من قصار السور وكانت تلك بداية صداقتنا على تعلم القرآن والهمة التي تناطح الجبال.

وثانيهما أني كنت أصلي القيام ذات ليلة واصطف الناس ليقطع الصف من منتصفه شقيقان صغيران فأراد أحد الكبار أن يؤخرهما إلى الصف الأخير، فنهيته قائلا "هما صغيران لكنهما مميزان يعرفان الصلاة وأركانها وأخلاقها وأفضالها وإلا لما وقفا هذا الموقف وبقائهما في منتصف الصف أفضل لترغيبهم في الصلاة وغرس حب المسجد في قلوبهم وأدعى لضمان تهذيبهم وعدم لهوهم في الصلاة وأوجب لتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتحمل المسؤولية لديهم"، فالصغير إن عاملته ككبير وحملته المسؤولية كان أفضل من الكبير في حملها وهو ما كان فقد وقف الصغيران بجانبي أحد عشرة ركعة في خشوع وسكون ووقار لم يكن لبعض الكبار مع طول الوقوف وهو ما تعجبه بل كاد يحسده ذاك الذي أراد تأخيرهما في الصفوف.

 

وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه والأمة كذلك بفتيانها الصغار ونبتها الغض الطري الذي إن احتضنته المساجد وأحسنت تربيته كان لهذه الأمة حديقة شوك ترد عدوها وتحفظ حقها وبستان زهر يفوح عبيره ليسود على كل الخلائق فمن الأحمق الذي يسحق اليوم براعم ستكبر غدا وتثمر لتطعمه في يوم ذي مسغبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.