شعار قسم مدونات

فيروس الكبد.. نفقات غير رشيدة!

blogs فيروس الكبد الوبائي

للتغيير ثلاثة مستويات تختلف في العمق والتأثير والوسائل والنتائج.

 

المستوى الأول.. التغيير على مستوى الأعراض

إن عَرَضَ الشيء هو قشرته الخارجية. والعمل عليها هو تغيير سطحي لا يغير شيئاً حقيقياً دائماً، لا بل هو تغيير يبدد الموارد المتاحة من جهد ومال ووقت. وللأسف فإن الكثير من الناس يعملون عليه وهم غافلون.  ومن أهم أشكاله الطالب الذي يدرس فقط لينجح في الامتحان وليس ليتعلم. فهو سيمضي سنوات الدراسة، ويحصل على شهادة، ولكنه غير متعلم. هذه هي مؤسسات التعليم. ومن أمثلة ذلك الذي يعالج عرض مرض من الأمراض، دون التعمق في سبب المرض أو بيئته.

 

المستوى الثاني.. التغيير على مستوى الأسباب

لكل ظاهرة من الظواهر إيجابية كانت أو سلبية، أسباب أدت إلى نشوئها. وإن العمل على مستوى تغيير الأسباب هو عمل أكثر عمقاً وأكثر فاعلية، ولكنه ليس الغاية العليا المنشودة. فلو حصل عندنا تزايد في حوادث السيارات والإصابات الناجمة عنها، فإن علاج الإصابات هو عمل على مستوى الأعراض، وفيه أنت لم تغير شيئاً … أنت تنتظر وقوع الحدث لتعالج المصابين.

 

ولكن وضع قوانين صارمة للسير، والإشراف على تطبيقها بحزم وأمانة، هو عمل على مستوى الأسباب يخفف الكثير الكثير من الإصابات التي يجب ألا تقع ابتداء. إن العمل على مستوى الأسباب يرفع كفاءة الأفراد والمؤسسات الخادمة لكل جوانب المجتمع، وهي فعالة في التخفيف من تكاليف هؤلاء الأفراد وهذه المؤسسات ولكن ليست بالنسبة المطلوبة ولا بالنتيجة المطلوبة. فالمطلوب أن نغيِّر البيئة التي ولَّدت الأسباب نفسها.

 

المستوى الثالث – التغيير على مستوى الجذور / البيئة:
ماذا لو أننا عملنا على إصلاح كافة محطات مياه الشرب في كافة المدن السورية، وأنشأنا محطات جديدة في القرى والأرياف، وعملنا على التوعية والتشديد في استخدام الوسائل التي تسبب العدوى. ألن يكفينا ربع المبلغ أو نصفه؟

" إذا أردت أن تقضي على البعوض، جفف المستنقع "

 

إن تجفيف المستنقع عمل تغييري على مستوى الجذور/البيئة. فلا تضيع وقتك باستخدام المبيدات لمكافحة بعوض سيتكاثر مرة أخرى بعد فقس بيوضه الجديدة المتراكمة في مياه المستنقع. إن من أهم فوائد العمل التغييري على مستوى الجذور/البيئة هو تقليل التكاليف بعناصرها الثلاثة وهي المال والجهد والوقت. ولكن تبقى الفائدة الأهم هو إزالة الخطر من جذوره، ففي هذه الطريقة نادراً ما يتكرر هذا الخطر. إن تقدير المعلم، مثلاً، وإعطاءه مرتبة مالية واجتماعية عالية، هو تغيير على مستوى الجذور فيما يخص العملية التعليمية. وهو الطريقة الأنجع للتخلص من الأمية والجهل، وحتى الفقر والمرض… الوعي شفاء. ولكي نفصِّل في العمل على مستويات التغيير الثلاثة، نعطي المثال التالي:

قصة علاج مرض فيروس الكبد الوبائي

في عام 2009 م، وصل عدد المصابين بمرض فيروس الكبد في سوريا إلى أربعمائة ألف مصاب. ولأن بعض أنواعه وبائي معدٍ، فإن الحكومة تتكفل بإدارة شؤون علاجه، وتتحمل نفقاته، ولا تترك أمره للعيادات الخاصة تعمل وحدها عليه، إذ من الممكن أن ينتشر هذا المرض بسبب أي خطأ أو إهمال غير مقصود. هذا ما قاله لي أحد الأطباء المختصين بهذا المجال وأنا أجري بحثاً اقتصادياً حول بعض التكاليف الحكومية.

 * وقال أيضاً: إن المريض يحتاج إلى برنامج علاجي يحوي جرعات محددة وبأوقات متناوبة خلال تسعة أشهر متصلة حتى يشفى من هذا المرض.

*سألته: وكم تكلفة البرنامج الواحد من الموازنة الحكومية؟

*الطبيب: تقدر التكلفة بـنصف مليون ليرة للبرنامج الواحد (للمصابين بفيروس C الوبائي المعد)، والدولة تتحملها كاملة.

* سألته: وما هي نسبة شفاء المريض بهذا البرنامج؟

* الطبيب: لا تتجاوز نسبة الشفاء الـ 20 % من الحالات.

* سألته: والمرضى الذين لا يشفون، ماذا يفعلون؟

* الطبيب: القانون الحكومي يسمح لهم ببرنامج آخر مجاني على نفقة الحكومة، وإذا لم يشفى فعليه أن يجري عملية زراعة للكبد أو يلاقي منيته.

* سألته: ما هو السبب الرئيس لهذا المرض؟

* الطبيب: إن تلوث مياه الشرب ومياه سقاية المزروعات يعد أهم أسباب هذا المرض، بالإضافة إلى العدوى الناتجة عن تلوث بعض معدات الحلاقة وما شابه.

* قلت: حسناً، تريد أن تخبرني أن لدينا في سوريا 400.000 شخص مصاب، وبعضهم مصاب بفيروس C المعدي القاتل. والموازنة الحكومية تتحمل مبلغ قرابة ملياري ليرة سنوياً (ناهيك عن النفقات الإدارية، ونفقات أهل المرضى) لعلاج مرض واحد فقط.

* الطبيب: للأسف هذا هو الواقع.

* قلت: والسبب الرئيس لهذا المرض هو مياه الشرب وعدم الحيطة باستخدام بعض الأدوات؟

* الطبيب: نعم.

* قلت: أنتم الآن تعملون على التغيير في مستوى الأعراض فقط، وهذا مكلف جداً وغير مجد على المدى البعيد. ماذا لو أننا عملنا على مستوى الأسباب فأصلحنا كافة محطات مياه الشرب في كافة المدن السورية، وأنشأنا محطات جديدة في القرى والأرياف التي ليس فيها محطات لتنقية المياه، وعملنا على التوعية والتشديد في استخدام الوسائل التي تسبب العدوى. ألن يكفينا ربع هذا المبلغ أو نصفه؟

* الطبيب: كلامك صحيح، ولكن هذا ليس من صلاحياتي. أنا أشرف على علاج المرضى فقط.

 

الذي يصاب بفيروس c أو يحمله ثم يصاب به، يكون قد مرَّ بظرف نفسي حاد لعدة أسابيع متوالية. ومثل هكذا أزمة لا تنتهي إلا بإصابة جسدية ما
الذي يصاب بفيروس c أو يحمله ثم يصاب به، يكون قد مرَّ بظرف نفسي حاد لعدة أسابيع متوالية. ومثل هكذا أزمة لا تنتهي إلا بإصابة جسدية ما
 

ملاحظة: كلام الطبيب صحيح، ولكن أين مخططو وواضعو السياسات الصحية الحكومية؟ أليس فيهم رجل رشيد؟

 * قلت ولكن جميع سكان البلد يشربون من المياه نفسها، وربما لهم نفس العادات السلوكية التي تسبب العدوى. فلماذا لم يصب الجميع بهذا الفيروس؟

* الطبيب: هناك صفة في هذا الفيروس وهي أن الإنسان من الممكن أن يحمله دون أن يصاب به. ولكن بسبب ظرف ما ينشط هذا الفيروس ويبدأ المرض. لذا نحن نتوقع أن عدد من يحمل هذا الفيروس أكبر بكثير من عدد المصابين.

* قلت: حسناً، هل من الممكن أن أعرف ما هذا الظرف الذي يوقظ الفيروس في كبد المريض، فيتحول من حامل له إلى مصاب به؟

الطبيب: على الأغلب أن الذي يصاب بهذا الفيروس أو يحمله ثم يصاب به، يكون قد مرَّ بظرف نفسي حاد لعدة أسابيع متوالية. ومثل هكذا أزمة لا تنتهي إلا بإصابة جسدية ما. حيث يعتقد العلماء أن الجهاز المناعي في مثل هذه الحالة يصاب بالخلل الجزئي أو حتى الكلي ويعجز عن أداء دوره في حماية الإنسان، فيكون هذا المرض أو غيره من الامراض ذات المنشأ الفيروسي.

* قلت: أي أن الإنسان إذا حافظ على توازنه الفكري والنفسي غالباً، أو منع اختلال هذا التوازن لفترة طويلة، ينخفض احتمال إصابته بأمراض خطيرة من هذا النوع؟

* الطبيب: علمياً، الجواب نعم، وربما لا يصاب أبداً.

* قلت: حسنا، إذا سأوصي في بحثي بصرف مبلغ الملياري ليرة سورية، على التفتح والنمو الذهني والروحي والعاطفي عند جميع الناس. وسأعلمهم كيف يحبون ويفرحون ويطمئنون ولا يقلقون ولا يخافون من المستقبل والمجهول. أي سأطالب بإحداث تغيير على مستوى الجذور/البيئة الداخلية العقلية والنفسية عند جميع الناس. فهل هذا سيخفف من حجم هذا المرض وغيره؟

* الطبيب: ليس فقط هذا المرض، بل تخف كثير من الأمراض عندنا. ولكن ، قال مازحا، يبدو أنك ستقطع رزقنا!

هنا تذكرت الآية الكريمة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.