شعار قسم مدونات

استيقظ يا صلاح الدين!

blogs القدس

بين تاريخ تليد ومجد عتيد، وبين حضارات ولت وأخرى منها مرت، تعيش أرض المقدس منتشية ببذاخة ماضيها مكلومة بفاقة حاضرها، مزهوة بأقدام أبطال وطؤوها ونافرة من أقدام جنود عاثوها، رجال سطروا أسماءهم بأحرف من ذهب على صفحات أيامها المشرقة، وأشباه نساء، وحاشا للنساء الحرات أن يشبهن بهم، وصموا لاحقاتها خزيا وعارا وضيما وأنزلوا بها من المثالب والمذلات ألوانا وصنوفا.

 

فمنذ نشأة الحياة على هذا الكوكب، كانت "إيلياء"، أو القدس حاليا، أرضا لصنوف شتى من بني آدم، وفي طليعتهم الأنبياء الكرام، فهذا موسى يكلمه ربه فيها، وهذان داود وابنه سليمان النبيان يحوزان مغفرة خالقهما بها، وذاك زكرياء يدعوه عز وجل فيها بالوريث فيبشره مولاه بيحيى نبيئا ووجيها، وتلك مريم العذراء ينفخ فيها من روحه تعالى بين ظهرانيها فيخرج من صلبها النبي المعجزة عيسى عليه وعلى باقي إخوانه أفضل الصلوات والتسليم، وهؤلاء نسب كنعان أهلها الأصليون ومنهم يعقوب ويوسف وذريتهما، ناهيكم عن تشريفها أيما تشريف بأن تكون مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونقطة معراجه للسدرة في السماء السابعة، بل وبمسجدها الأقصى اجتمع جل المرسلين في صلاة لم يشهد الكون أقدس ولا أزكى منها.

 

يا رسول الله، أخبرتنا بأخذ الحيطة والحذر ممن لا يدينون بديننا قبل أن يتداعوا علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فكيف بنا نفعل ذلك والقصعة هي من تداعت علينا؟

هذا، وبعد هذه الثلة الطاهرة جاءت أخرى صالحة تابعة، فكان الفاروق رضوان الله عليه أول من أدخل شهادتي التوحيد إليها معطيا الأمان لأهلها من شتى الملل والذمم بما سمي "العهدة العمرية" في السنة السابعة للهجرة، لكي تبقى فلسطين مسلمة في المظهر متعايشة في الجوهر، يردد فيها الأذان خمس مرات يوميا وتقام فيها الصلوات وتجبى فيها الزكوات وتضرب فيها أجراس الكنائس وترفع فيها نجمة داود فوق ديرها طوال دهر من الزمن لم يعكر صفوه سوى الحروب الصليبية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء دونما ذنب أو زلة، فقيض الله تعالى لهاته الأرض من يفك أسرها ويدحي غاصبها، فكانت معركة حطين الخالدة يوم السابع والعشرين من رجب الحرام من عام 583 للهجرة بقيادة الأسطورة صلاح الدين الأيوبي وما أدراكما صلاح الدين الأيوبي، الفارس الذي ما يزال غصة في حلق قادة الغرب ليومنا هذا، حتى أن أحد قواد فرنسا عند استعمار دمشق في مطلع العشرينات من القرن الماضي، أحاط نفسه بأكاليل النصر وسط جنوده وحشوده، ثم زار قبر صلاح الدين الأيوبي وقال في شماتة: "استيقظ يا صلاح الدين، فنحن قد عُدنا".

 
نعم، استيقظ يا صلاح الدين فالأقصى يئن، استيقظ يا صلاح الدين فالأقصى يدنس بأيدي السفلة من الصهاينة والخونة من العرب، استيقظ يا صلاح الدين استيقظ فأقصانا يهدم رويدا رويدا تحت مزاعم هيكلهم، استيقظ يا صلاح الدين استيقظ.. فالقدس بيعت بمدفع رشاش وطائرة حربية، صلاح الدين استفق، اصح، تيقظ وانهض فإن من استأمنتهم على قدسك تناسوا العهد وابتاعوا الكرامة بالحقارة، والهوان بالهيبة والخسة بالنخوة، فصار ملوك اليوم طوائف الأمس ضاربين عرض الحائط تضحياتك وتضحيات أمثالك من عمر بن الخطاب وعبد الحميد الثاني وعز الدين القسام.

 
إنها زهرة المدائن، أرض الأنبياء ومهد الرسالات، بلاد المسرى ومنطلق المعراج، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، تتأوه منذ 70 سنة، وأمام أنظار العالم، من ويلات التشريد والتنكيل والتصفية العرقية، تعاني في صمت بعدما خرس صوت الاستغاثة ودفن بجوفها، تكابد صنوف التعذيب والترهيب في كبرياء عجيب، تقاسي آلام الظلم وتناوئ آهات الجور والاضطهاد، تذرف بدل الدمع دما مع كل إزهاقة نفس طفل أو أمة أو كهل، وتلائم جروح خيانة إخوانها وأشقائها في العروبة والدين بأرواح شهدائها الأحرار البسالى من شباب فلسطين.

 

يا رسول الله، أخبرتنا بأخذ الحيطة والحذر ممن لا يدينون بديننا قبل أن يتداعوا علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فكيف بنا نفعل ذلك والقصعة هي من تداعت علينا؟ ماذا بنا نفعل والقصعة تكالبت مع الأكلة علينا؟ كيف بنا أن نتصرف والقصعة قد شجت فوق رؤوسنا فصارت أشلاء متناثرة تنافرت من الالتحام رغم تكامل زواياها فصارت شظايا تجمعها الخريطة وتفرقها الأعلام والرايات؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.