شعار قسم مدونات

لماذا نحتاج لوجود الأصدقاء في حياتنا؟

blogs أصدقاء

كانت ليلة شديدة البرودة ونسمات الصقيع تجوب شوارع المدينة بلا كلل أو ملل، كان الوقت منتصف الليل عندما دخلت إلى إحدى مقاهي اسطنبول هربا من البرد وطلبا للدفء، جلست إلى إحدى الطاولات القريبة من أجهزة التدفئة لأنال قسطاً من الدفء. كان المقهى مزدحماً بالناس من مختلف الأجناس دلني على ذلك مزيج اللغات التي كانت تتردد في أنحاء المقهى، لم أستغرب الأمر فالمكان كان قريباً من إحدى المعالم الأثرية في اسطنبول والمدينة بطبيعتها وجهه للسياح من مختلف أرجاء المعمورة.

 

لفت انتباهي شابان عربيان كانا يجلسان على الطاولة المقابلة لي وبدا لي من حديثهما الودي المليء بالفكاهة أنهما صديقان. بعد أن جلست وبينما كنت أخرج من حقيبتي إحدى روايات الأدب الأندلسي طلبت كاساً من الشاي فلا شيء يعادل كاساً دافئا من الشاي في مثل هذه الليلة الباردة، بعد أن وصل الشاي بدأت بقراءة الرواية، ورويداً رويداً أخذت الأصوات من حولي بالتلاشي كلما استغرقت في القراءة وأخذتني أحداث الرواية بعيداً عن المقهى وضوضاءه في رحلة عبرت بها الزمان والمكان إلى الأندلس وتحديداً مدينة السحر والجمال غرناطة حيث تدور أحداث القصة.

 

وبينما كنت على هذه الحال قطع علي استغراقي في أحداث الرواية نقاش حاد تعالت أصواته، تجاهلت الأمر في البداية لكن الأصوات علت أكثر وكان يبدو أن مصدر الأصوات كان قادماً من الطاولة المقابلة لي، حينما نظرت إلى الطاولة رأيت أحد الصديقين موجهاً كلامه للأخر الذي التزم الصمت "منذ فترة ليست بالقصيرة لم تعد تعاملني كما يعامل الأصدقاء بعضهم، لم أعد أجد في تصرفاتك ما يدل على الحب أو الاحترام، صرتَ لا تجيد إلا السخرية من كل ما أقوم به، لقد تغيرت كثيراً وأنا لم يصدر مني تجاهك ما يبرر لك عمل ذلك، أنا لم أعد قادراً على تحمل المزيد من تعاملك السيء معي".

 

وصلت دراسة أجريت في جامعة هارفرد إلى أن وجود صداقات قوية في حياة الإنسان يساهم في تعزيز صحة الدماغ إضافة إلى قدرة الصداقة على الحد من الشعور بالتوتر

وغادر المكان بعدها على الفور، ظل الأخر بعدها عدة دقائق ثم غادر هو أيضا المكان ومزيج من الغضب والحزن باد على تقاسيم وجهه، دفعني الموقف الذي حدث أمامي إلى التفكير فيما قد يكون السبب الذي أدى إلى تغير الحال بين الصديقين في غضون دقائق. تندرج الصداقة تحت مظلة العلاقات الإنسانية والاحتياجات الاجتماعية الأساسية الضرورية لحياه الفرد، فالإنسان اجتماعي بطبعه ويحتاج للحب والانتماء للأخرين وفي هرم ماسلو الشهير الذي يصف أهمية الاحتياجات الإنسانية بالترتيب وضع عالم النفس الشهير أبراهام ماسلو الاحتياجات الاجتماعية -والتي تمثل الصداقة إحدى أعمدتها الأساسية- في المرتبة الثالثة من الأهمية بعد الاحتياجات الفسيولوجية (Basic needs) كالأكل والشرب والجنس والتي تمثل قاعدة الهرم وحاجات الأمان (Safety needs) التي تأتي في المرتبة الثانية، كما أظهرت كثير من الدراسات والبحوث أهمية الصداقة ومدى تأثيرها في حياة البشر.

 

فقد وصلت دراسة أجريت في جامعة هارفرد إلى أن وجود صداقات قوية في حياة الإنسان يساهم في تعزيز صحة الدماغ إضافة إلى قدرة الصداقة على الحد من الشعور بالتوتر، وتمكين الإنسان من اختيار أسلوب الحياة الذي يحافظ على قوته، كما وتساهم في الخروج من المشكلات الصحية بشكل أسرع، كما أجريت دراسة استرالية في مركز أبحاث للشيخوخة، راقبت الدراسة 1500 شخص من كبار السن لأكثر من عشر سنوات، ووجد القائمون على الدراسة أن الأشخاص الذين تكون دائرة أصدقائهم أوسع يزيد طول أعمارهم بنسبة 22 بالمائة عن الأشخاص الذين تكون دائرة أصدقائهم أصغر، كما يعتقد الباحثون أن الأصدقاء الجيدين يمكنهم منع السلوكيات الغير صحية مثل التدخين والشرب، ومكافحة الاكتئاب وتعزيز احترام الذات وتقديم الدعم إضافة إلى وجود مشاكل أقل في القلب والأوعية الدموية.

مما سبق يتبين لنا مدى أهمية الصداقة وشديد أثرها على سلوكنا وتكوين شخصياتنا فمما لا شك فيه أن للأصدقاء دور كبير في قراراتنا وفي طريقة تعاملنا مع الأشياء وتناولنا لمختلف الأمور في حياتنا بل وحتى في الطريقة التي نرى ونحكم بها على العالم من حولنا سواء جهل ذلك بعضنا أم أنكره آخرون. هناك أنواع عديدة من الأصدقاء الذين نتعرف عليهم في مشوارنا في الحياة لكن أكثرهم شيوعا يمكن وصفهم كما يلي:

الصنف الأول وهو التابع: هذا النوع من الأصدقاء هو الشخص الذي يبحث عن متعه الجلوس معك والحرص الدائم على رضاك عن طريق موافقتك على كل ما يصدر عنك، صداقتة مريحة ولا يصدر عنه ما يزعجك، لكن هذا النوع من الأصدقاء يفتقر إلى إحدى أهم الركائز الأساسية في الصداقة وهي النصيحة والتعلم المتبادل والإستفادة من خبراته، فهو لا يضيف لك أي جديد ولا يمكن أن تتعلم منه شيئا فهو موافق على الدوام وتابع لك في كل الأمور، هذا النوع من الأصدقاء قد يصدر منه ما يؤذيك بشكل غير مباشر فقد يشجعك على الخطأ إن رأى أن في ذلك ما يرضيك فهو يحرص على رضاك أكثر مما يخاف عليك.

الصنف الثاني هو الناقد السلبي: وهذا النوع من الأصدقاء يجد راحتة في توجيه الآخرين ويستلذذ بتخطيئهم وخبير في النقد السلبي والهدام، كما قد يصل به الأمر في كثير من الأحيان إلى إدعاء معرفة نواياك والحكم المسبق عليها وقد يسخر حتى من طموحاتك وأهدافك، كل مافي هذا النوع من الصداقة سلبي ولا يشكل إلا نوعاً من الثقل والهم الذي نحن في غنى عنه.

الصداقة من أجمل السمات الإنسانية التي تحلو بها الحياة، أصدقائنا هم المتنفس الذي نهرب إليه إذا ما اشتدت علينا مصاعب الحياة لنجد بقربهم الراحة والنصيحة
الصداقة من أجمل السمات الإنسانية التي تحلو بها الحياة، أصدقائنا هم المتنفس الذي نهرب إليه إذا ما اشتدت علينا مصاعب الحياة لنجد بقربهم الراحة والنصيحة

الصنف الثالث من الأصدقاء هو المحب الصادق: هذا الصنف من الأصدقاء يحبك لذاتك، يعلم أنك مليء بالخير، ولأنك بشر قد تصدر عنك الأخطاء ولديك عيوب فيتقبلها ويحاول إصلاحها، كما يعرف أن لديه عيوبه هو الاخر فيعمل جاهدا ألا يأتيك منها ما يؤذيك، يوجهك إذا ما رأى أنك أخطأت، لكنه عندما يوجهك لا يعنفك أمام الآخرين أو يخبرك بأخطائك بطريقه فظة قد تجرحك، بل على العكس يختار الأسلوب المناسب قبل أن يقدم على توجيهك فهو حريص على مشاعرك وإذا ما صدر عنه سوء يبادر بالاعتذار، هذا الصديق أيضا يتقبل منك نصائحك ويحملها محمل الجد لأن النصح والإرشاد هما جوهر الصداقة، باختصار شديد هذا الصديق يمكن أن يلخص كما في معنى قوله صلى الله عليه وسلم أنه الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يضع عليك بعضا من عطره وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ففي جميع الحالات تكون رفقته طيبة ذو فائدة.

احرص ما استطعت أن يكون أصدقائك من الصنف الثالث وإياك أن تكون من الصنفين الأول والثاني من الأصدقاء، وبالرجوع للصديقين في المقهى قد يكون ما حدث بينهما نتيجة لتكرار الخطأ من طرف وأيضا نتيجة للكبت المستمر وعدم التنبيه عند صدور الخطأ من الطرف الاخر هروبا من المواجهة أو تغاضيا رغبة في عدم إثارة المشاكل، صحيح أن التغاضي عن بعض الأخطاء شيء جميل في العلاقات لكن بشرط ألا يكون الخطأ كبيرا بالنسبة لك إلى الحد الذي يجعلك تحمل في قلبك ضغينة على صديقك وإلا فالتنبيه والعتاب أولى لكيلا يولد الخطأ تلو الخطأ تراكما وضغينة في القلب لا تلبث أن تنفجر، لذلك نبهوا أصدقائكم إذا بدر منهم ما يزعجكم ولا تكتموا وتحملوا في قلوبكم فيأتي الموقف الذي تنفجرون فيه بعنف قد لا يكون مبررا في لحظتها لكنه يحمل ضغينة كل المواقف التي ادعيتم التغاضي عنها وظلت نكتا سوداء في قلوبكم.

الصداقة من أجمل السمات الإنسانية التي تحلو بها الحياة، أصدقائنا هم المتنفس الذي نهرب إليه إذا ما اشتدت علينا مصاعب الحياة لنجد بقربهم الراحة والنصيحة ومشاركة الهموم والأحزان والعون عليها، الأصدقاء نعمة لا تقدر بثمن ومحرومون هم أولئك الذي لا يملكون أصدقاء، أحبوا أصدقائكم وحافظوا عليهم وسامحوا لتُسامحوا ولا تهملوا فتُهملوا ولتكن المحبة والمودة والألفة وجميل العشرة عنوان صداقتكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.