شعار قسم مدونات

المنهج والتلقي في الدرس العلمي

مدونات - علم تدريس مدرس تعليم

لقد ترسخ لدينا سؤال: ما هو "المنهج" الذي يناسب الدرس العلمي؟ في مقابل غياب السؤال الأساس: ما المنهج؟ لا يخلو السؤال من مجازفة وصعوبة، أي نعم؛ وتكمن الصعوبة في تحديد مفهوم المنهج، في كونه قدد تغير من حقبة إلى حقبة، بل ولم يكن من السهل تحديده في مرسى حقبة واحدة وذلك راجع إلى اختلاف وجهات النظر حوله، من خلال هذا الطرح يمكن أن نتحدث عن ديناميكية المناهج وتطورها، وهذا الشق قد يساعد إلى حد كبير في فهم المناهج من خلال مفهمة التطور. لكل فرع صلة بجذره مهما ابتعد وتشعب عنه، ولعل في العودة -مبدئيا- إلى استقصاء مفهوم/ معنى المنهج في جذره اللغوي الثلاثي مسعفا لفهمه من حيث آلية تطوره فيما بعد.

 

ففي لسان العرب هو من "نهج: طريق نهج: بين واضح"، وهو كذلك وفق ما جاء به ابن منظور "سبيل: منهج: كنهج. ومنهج الطريق وضوحه والمنهاج: كالمنهج". ولا يزيد الزبيدي في "تاج العروس"، ولا الفيروزبادي في "قاموسه المحيط" من شيء على معنى الوضوح وبيان الطريق كما ورد عند ابن منظور. كذلك هو الحال في "أساس البلاغة" للإمام الزمخشري الذي كان مفترضا به أن ينهض بمعنى (مفهوم) المنهج كون كتابه قام على أسس بلاغية أكثر منها مما هي لغوية. لقد أورد كل من ابن منظور والزبيدي قول الله عز وجل " كُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" وقد استدلا بالآية الكريمة للبيان على أنها "معنى" للطريق الواضح البين، مع أن في الآية ما يجعلها تحتمل أكثر من معنى؛ فلفظة "شرعة" قبل لفظة "منهاج" تدل على معنى ملة أو شريعة، الأمر إذن؛ متعلق بمفهوم ديني، وبقرنها مع لفظة "منهاج" فوجه القياس وأوجه التأويل تؤدي جميعها إلى معنى "طريقة:؛ أي لكل جعلنا ملة وطريقة وأوجه التأويل بمعنى طريقة فيها عمق أكثر؛ فهو لا يشير -فقط- إلى معنى الطريق الواضح البين، بل ويزيد بمعنى وعي ديني في التفكير والسلوك.

 

وتتخذ المعاجم الأجنبية منحى آخر في تحديد مفهوم المنهج Méthode فهو: "مجموعة من الأفكار المعقولة والمنظمة التي نستعملها لاكتشاف وإيضاح حقيقة ما، من أجل البحث أو التدريس" يختفي "معنى" الطريق الواضع -هنا- كما هو في المعاجم العربية، ويظهر مفهوم المنهج يتصل في شق منه بمعنى الوعي والفكر الذي اقترحناه في تأويل لفظة "منهاج" في الآية الكريمة السابقة.

 

وهو كما تعرفه موسوعة اللغة الفلسفية
أ- في معناه التجريدي Sens Abstrait: سمات نشاط يشتغل حسب خطة معقولة ومحددة مسبقا.
ب- في معناه الحسي Sens concret: (المنهج) مجموع مبادئ موجهة لضمان نتيجة معينة رياضيا.
س- منهج علمي: مجموع مبادئ جذرية هدفها بناء تجربة تبرهن على الحقيقة.

  undefined

 

وقد عرفت موسوعة لالاند الفلسفية المنهج على أنه:

أ- مجهود لبلوغ غاية، بحث، دراسة.
ب- المنهج بمعنى الترتيب الأفضل لفعل الفكر حول موضوع واحد بعدة أفكار، عدة أحكام وعدة أدلة.
ج- برنامج ينظم مسبقا سلسلة عمليات ينبغي إكمالها، وتدل على بعض الأخطاء الواجب تجنبها، بغية بلوغ نتيجة معينة.
ح- تكاد تستعمل دوما كلمتا منهجي، منهجيا، وتتضمن تصورا فكريا مسبقا للخطة الواجب إتباعها.

 
لقد تحصل لدينا من كل هذه التعريفات مجموع قواسم مشتركة حول مفهوم المنهج، نعيد صياغتها على النحو التالي:
منهج
تصورات فكرية
خطة معقولة
منهج ثابت فكر معين
نشاط فكري
خطة مجهود فكري
ترتيب لفعل الفكر برنامج تنظيمي للفكر
البحث في الحقيقة بطريقة رياضية.
يمكن استعراض هذه التعريفات على نحو المعادلة التالية:
خطة
ترتيب
فكر مجهود حقيقة
نشاط
التزام
 
لقد اضطرت هذه التعريفات في تحديد مفهوم المنهج في حين لم تختلف حول قطبي الفكر والحقيقة. وهي لم تحترم في شيء سلطة الفكر في إنتاج المنهج للوصول إلى حقيقة ما تفترض هذه التعريفات وجود مناهج معدة مسبقا بغض النظر عما إذا كانت هذه المناهج مفيدة في تصريف الفكر الذي يعكس وعيا بخصوصية الدرس العلمي ووضعية التلقي للوصول إلى حقيقة معينة. من هنا نقترح المعادلة الصواب في تحقيق بتلقي معادل لدرس علمي متكامل:
فكر تخطيط بدل خطة
نشاط
حقيقة
ترتيب
برمجة بدل برنامج
مجهود
إلزام بدل إلتزام
   undefined

 

إن طرح الأسئلة الخاطئة يؤدي بالضرورة -كما أسلفنا- إلى الاختيارات الخاطئة من حيث المنهج، وبالتالي لا تنتج إلا الإجابات الخاطئة التي لا تنكشف معها الحقيقة، وهذا ما يفترضه التعريف التالي للمنهج بدون وعي، حيث ورد أنه طريق نصل بها ومن خلالها إلى نتيجة معينة لم تحدد من قبل تحديدا إراديا ومترويا .بين أن يكون المنهج مجموع أفكار معقولة ومنظمة..، وبين أن تكون النتيجة/ الحقيقة مجهولة غير واضحة المعالم، ولم تحدد من قبل تحديدا إراديا ومترويا، بون شاسع يغير مفهوم المنهج من حكمته وعقلانيته إلى عفويته ولاإراديته..، وهنا يصير المنهج ارتجاليا جامحا بصاحبه نحو نتيجة/ حقيقية قد تحصل في غالب الأحيان بالصدفة وقد تكون عكسية في أحايين أخرى.
 
إن مفهوم المنهج "مرتبط في الأصل بالفلسفة الديكارتية، فقد أشار ديكارت "Des cartes" في مجمل مدونته إلى ضرورة أن تنهج في البحث نهج التنظيم وألا يكل الأمر إلى الصدفة". هل يفترض -إذن- أن يكون الباحث "عارفا" بحقيقة المنهج الذي يعتمده، في وضعيات مختلفة بأبعاد التلقي والتلقين للقضايا التي يحاول الإجابة عليها؟ أم يفترض به أن يكون "جاهلا" بالحقائق والنتائج، بحيث إنه يقدمها لنفسه ولغيره على شكل إجابات– كجزء من منظومة متلقين افتراضيين؟ تجد الإشارة -ها هنا- أن "المناطق" يعدون المنهج فنا للتنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين .تبدو هذه الإجابة التي استقيناها من عند المناطقة، مضطربة إلى حد ما، فالمنهج عندهم -بصيغة توضيحية- إما يفترض "منهاجا فكريا" وإما يفترض "فكرا ممنهجا"؛ وهذا عين الاختلاف في تبني الفكرة وضدها.

 

لقد "عرف المنهج بأنه الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى تصل إلى نتيجة معلومة"، بمعنى أنه وعاء تصير به القواعد في إطار التصور المنهجي جاهزة قابلة للاستعمال في كل وقت. لذلك، فوعائية المنهج المرتبط بالفكر، المحقق لتلقي ودرس علمي حقيق ناجح، لا تفترض -فحسب- النمطية والتكرار على مستوى استعمال الملقي لنفس القواعد التي اعتمدها ملقي آخر في دراسة علمية مغايرة، بل تفترض -وتفرض- تقييدا للتأويل وطمسا للحقيقة التي يسعى الملقي لدرسه العلمي الوصول إليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.