شعار قسم مدونات

الطريق من هنا.. كما أخبرني الغزالي

BLOGS الغزالي

بينما كنت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وجدْت تدوينة لأحدهم ينصح فيها بقراءة كتاب (الطريق من هنا) للغزالي، حمّلت الكتاب على هاتفي مباشرةً وقرأته حتى أتيت على آخره ولم أغير جِلستي، ثم قرأته مراراً وتكراراً. الطريق من هنا كما أخبرني الإمام محمد الغزالي رحمه الله، (محمد الغزالي عالم ومفكر إسلامي مصري، وُلد عام 1917م وتوفّي عام 1996م). أخبرني الغزالي أن الأمة الإسلامية قد طمع فيها حتى من لا يحسن الدفاع عن نفسه، وأنه لا يلوم أحداً استهان أحداً استهان بنا أو ساء ظنه بديننا، لأن القطيع السائب لا بد أن تفترسه الذئاب.

أخبرني الغزالي رحمه الله أن هناك مصلحين سمّاهم "ناشدي الإصلاح"، وقسّمهم فريقين، فريق يرى أنه أداة سريعة للتغيير، وفريق يتجه إلى جماهير الأمّة ويرى في ترشيدها الخير كله، ويستغرب الإمام الغزالي من صنيع الفريق الأول فهو يرى أن طريقتهم تحتاج إلى صدّيقين وشهداء أو حكماء وفلاسفة محلقين، ثم يعقّب: إن أي حكم رفيع القدر لن يبلغ غايته إلا إذا ظاهره شعب نفيس المعدن. أخبرني رحمه الله أن الشعوب هي الأصل، وأن على بُغاة الخير أن يختلطوا بالجماهير، وأن يحذروا من أن يذوبوا فيها وإنما يختلطوا ليرفعوها لمرحلة فك القيود الفكرية الموروثة.

حذّرني الغزالي من أمرين، تصوّر خاطئ للإسلام يخلط بين التعاليم المعصومة والتطبيقات التي تقبل الصواب والخطأ، وأيضاً الجماعات التي تقف بعيدا دون أن تعمل، معتبراً إياها بطالة مقنّعة، تمضغ الكلمات الفارغة ولا تجيد إلا إثارة الخصومات التاريخية.

أبهرني الغزالي عندما قال لي أن اقتصار التدين على نوعين أو أكثر من الطاعات المأثورة إزراء بحقيقة الدين وطمس لرسالته، وإعطاء الشيطان مساحات رحبة يلعب فيها كما شاء

بدأ الغزالي في بدايات الكتاب بقول شوقي: "يا مال الدنيا، أنت والناس حيث كنت"، وقد صرح الغزالي ولم يلمّح أن المستعمرين فقهوا هذه الحقيقة، فدسّوا أصابعهم في منابع الثروة والمال، وأشْعَرُوا أهل البلد أن ثيابهم ورغيفهم في يدهم، وأن البعد عنهم طريقُ ضياع، فإذا جلت جيوشهم فلا تحرر لأن أيدي المواطنين هي السفلى في ارتقاب العطاء، فسادة الأمس بالقهر العسكري هم سادة اليوم بالتفوق الاقتصادي، ولا معنى للعصا إن كانت الإيماءة بالعين تكفي.

أبهرني الغزالي عندما قال لي أن اقتصار التدين على نوعين أو أكثر من الطاعات المأثورة إزراء بحقيقة الدين وطمس لرسالته، وإعطاء الشيطان مساحات رحبة يلعب فيها كما شاء، وقد زاد فقال: تلوْتُ سورة القصص، وربطت آخرها بأولها، فرأيت أن الله سبحانه شرح أحوال الاستبداد السياسي والطغيان الاقتصادي في قصّتيْ فرعون وقارون ثم ساق الله تعالى هذا القانون الحضاري الصارم (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، إنه بعد عشرة صفحات من السرد التاريخي قرر هذه الخلاصة "الاستعلاء والفساد يستحيل أن يأتيا بخير"، كل فرد فوضوي في سلوكه ظالم لغيره لا بد أن يجني الويل من هذا الخلل.

خبر الغزالي من يقرأ كتابه أنّ عناصر العدل السياسي والاجتماعي من صميم العمل الصالح، ولن ينزل الوحي ليعلم المدير كيف يدير، ولا المعلم كيف يعلم، أو السائق كيف يحترم الطريق، أو الصانع كيف يبدع، فذلك كله تهتدي له الفطرة المؤمنة، هذا "العمل الصالح" دائرته تشمل الدنيا كلها، وحرية الحركة فيه مطلقة يستثنى منه بعض المأثورات التي جمّد الشارع قالبها، (صلّوا كما رأيتموني أصلي…)، أما بقية الأعمال الصالحة فهي الحياة كلها، وحسب المسلم قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

أخبرني رحمه الله أن السلبية لا تزكّي فرداً ولا جماعة، والأمة التي تدور حول مآربها فحسب لا تزيد عن أعدادها من الدواب في الحقول أو الوحوش في الغابات، وأخبرني أنّ هناك رذائل تتجاوز مقترفيها ويمتدّ أذاها إلى آماد بعيدة، فالغش في الامتحانات أو السلع أو المباني أو رصف الطرق، أو غير ذلك من شؤون الناس رذيلة مدمّرة النتائج، وقد نفى النبي عليه السلام عن صاحبها أن يكون من جماعة المسلمين "من غشّنا فليس منّا"، والواقع أن الغش هدّ أركاننا وأضعف قوانا وزعزع الثقة فينا.

أخبرني رحمه الله أنّ أمّةً بخير يجب أن تؤدي رسالتها، وأن أمتنا تتقدم خطوة فتحاصرها عقبات من عند نفسها أكثر مما هي كيد العدو وسعيه لهزيمتها، أمتنا جهلت رسالتها منذ زمن بعيد، وهي رسالة من وضع الله لنا لا من مزاعمنا لأنفسنا، وأضاف رحمه الله أن الأمة التي لا تعرف لها هدفا قد تتحرك في موضعها، أو حتى في اتجاه مضاد فتصيب نفسها وهي تريد غيرها، وقد حدّد القرآن الكريم رسالتنا في هذا العالم فقال: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، أهي دعوة للخير في الملصقات والكتيّبات؟ لا، يجب أن تقدم الأمة من نفسها نموذجاً حيّاً وأسود حسنة لما تدعو إليه.

 

يخبرنا الغزالي أن صاحب الرسالة لا يفتح العقول بسكين إنما يفتحها بكلمات الله المنيرة التي تنزلت عليه، وأنه منهيٌّ عن طاعة الكافرين مأمور أن يجاهد بهذا القرآن من اعترضوا طريقه، (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ) (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، ثم يردف قائلا أنه يعلم بتجربته ودراسته أن هناك مستكبرين يستبيحون غيرهم ويجتاحون حقوقهم المادية والأدبية، إن الاستسلام لهؤلاء وضاعة، وترك الحقيقة تحت أقدامهم جريمة، لا بدّ من مقاومة هؤلاء وحشد أهل اليقين لحسم شرهم (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

أخبرنا الغزالي رحمه الله أن رسالة الأمة كما شرحها القرآن هي في فعل الخير والدعوة إليه ومحو المنكر وعمل المعروف
أخبرنا الغزالي رحمه الله أن رسالة الأمة كما شرحها القرآن هي في فعل الخير والدعوة إليه ومحو المنكر وعمل المعروف
 

يقول رحمه الله بعد ذلك: إننا لم نبدأ عُدواناً، لقد أنذَرْنا بالوحي، وجاهدنا بالكلمة، وشرحنا بغيتنا وهي تحقيق الخير في الدنيا وتحويل الأرض إلى ساحات عبادة وتراحم لا يدع المجتمع فيها جائعاً ولا عارياً ولا محقوراً، تلك أهداف أمتنا التي رسمها القرآن، ولكنّ المأساة الكبرى أن هذا الهدف نسيه من فيه، ولم يشغل نفسه ولا قومه بالإعداد له، ولم يكلف نفسه محو الشبهات التي أثيرت عمداً حول مقاصده، فمضت الأمة في طريق مليء بالغيوم.

وبمناسبة أن كأس العالم لكرة القدم تُلعب في هذه الأيام، فقد أخبرني الغزالي رحمه الله أنه راقب الفرق العربية ذات مسابقة، فوجد أغلبها يعود فاشلاً صفر اليدين، أما الدول الكبرى فتظفر بالجوائز وتكسر الأرقام القياسية، فأدرك حينها أننا متعبون جسمانيا وروحانيا، ويرى رحمه الله أن علاج ذلك العجز يبدأ من تصحيح القاعدة الشعبية نفسها، وإن قُلتَ له ثم ماذا؟ قال: بعد أن تنشأ لنا أُمّة قوية الروح والجسد والعقل والعاطفة لن تكون لها مطامع جنسية أو مادية، ولن تزعم بأن دما أفضل من دم، ولن تزعم أن أولاد يعقوب أشرف من أولاد إسماعيل، لأن رسالتها ستكون مع المظلوم حتى ينتصف، ومع المحروم حتى يستغني، ولن تكون لها قداسة إذا أهانت الحق، أو استوحش الحق في جنباتها.

ختاماً

أخبرنا الغزالي رحمه الله أن رسالة الأمة كما شرحها القرآن هي في فعل الخير والدعوة إليه ومحو المنكر وعمل المعروف، وأن معنى المعروف مركوز في فطرة البشر، وأن إيراد رسالة الأمة هكذا مقصود حتى يعرف القاصي والداني ما هي وجهة الأمة، وعندها سنسفك دماء أبنائنا لنحرر الناس لا لشيء إلا إرضاء لله وإقراراً للحق. إن ديننا إذ يزن الأعمال بمثقال الذرة لا يقبل الفوضى التي تقع بين الناس سواء كانوا مسلمين أم كانوا يهودا أو نصارى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.