شعار قسم مدونات

التفكير الإطاري ومتابعي الكلاسيكو!

مدونات - كلاسيكو

سأبدأ بمقدمة صغيرة تجعل ما يقارب نصف عدد القراء يتراجعون عن إكمال القراءة، ولكنه أمر لا بد منه للتخلص من عقدة الشعور بالذنب لخداع القارئ بعنوان براق لإيقاعه في شرك قراءة نصٍ ما يبدو وكأنه مثير للاهتمام، بينما لا يبدو كذلك بعنوان آخر أقرب إلى الحقيقة.

  

لا زالت كرة القدم من أكثر مُتع الحياة في عصرنا الحاضر، ممارسة ومشاهدة وتشجيعاً، خاصة في خضم التنافس الشديد بين الأندية الشهيرة، ولا يعني عدم اهتمام بعض فئات المجتمع العربي بهذه المهرجانات الكروية، أنهم في حالٍ أفضل من أولئك الذين يعشقون تلك النوادي حد التعصب، فلا زلت أعتقد أن الرغبة في الحياة بكل متعلقاتها هو ما تبقّى لتلك الشعوب العربية من أمل بعد فقدان الأمل في حياة سياسية واجتماعيه مستقرة بعيدة عن كل خيبات الأمل التي تسيطر على واقعنا العربي بشكل عامٍ، وأن من لا يهتم بما تهتم به الجماهير يعاني بشكلٍ أو بآخر من مشكلة اجتماعية قد تتطور لتُحدث مشكلات سلوكية فيما بعد مالم يكن هناك اهتمامات أخرى يشارك المجتمع فيها، لكنني، ومع ذلك، أظن أن من لا يتعصب لإحدى تلك الفِرَق والنوادي يتميز بالقدرة على النظر من وجهة نظر منفتحة بعيدة عن الأطر المسبقة والتفكير الإطاري الاختزالي.

  
وكمتابعٍ غير محترف وبالتالي غير متعصب لإحدى تلك الفرق، يبدو لي تفكير متابعي الكلاسيكو الإسباني من أفضل أمثلة التفكير الإطاري، الذي يعتبر أحد أنماط التفكير التي تجلب الكثير من الأخطاء، لكنه نمط مريح ولا يتطلب جهداً كبيراً، فما على صاحبه إلا وضع إطارٍ عام يُلقي فيه بكل الأحداث لتبدو منطقية ومبررة بدون أدنى جهد، فيما يشبه نظرية المؤامرة التي يدخل تحت إطارها كل الأحداث بسهولة ودون عناء.
   

نزعة البحث عن زعيم وقائد، هي نزعة قديمة، بدأت منذ الإنسان الأول الذي فضل العيش في جماعات، لكن عوامل التطور يفترض أن تكون قد هذبت من هذا السلوك

يضع المحب لهذا الفريق أو ذاك إطاراً عاماً، في الغالب إطار عاطفي، يحيط به فريقه المفضل، ويختلف سُمك هذا الإطار من شخص لآخر، فإذا فاز فريقه جعل كل الأحداث تدور في فلك العبقرية والذكاء والتفرد، وإذا كانت الخسارة، ألقى باللوم على المدرّب أو الحكم أو الجمهور أو أي سبب إلا أن يفكر بأسباب تكسر الإطار المقدس الذي ألقاه حول محبوبه. ومن العجب أن يستطيع ذلك الشخص وضع الحدث ونقيضه في ذات الإطار واحد دون أدنى غضاضة يشعر بها ما دام الأمر سيبرر له وجهة نظره ويريحه من عناء التفكير والتحليل المضني للبحث عن الأسباب. ومن العجب أيضاً قدرة هؤلاء على استخدام ذات المبررات التي انتقدوا بها خصومهم ففي المرات التي لا يكون الحَكَم هو المتهم في نتيجة مباريات معينة عند فريق معين، مثلاً، يكون هو المتهم عند الفريق الآخر، فيما يبدو للمتابع من خارج الإطار كتراشق طفولي ورمي للاتهامات بلا تفكير ولا مسئولية.

  
ويبدو أن الإطارات أنواع، لكن أشدها هو إطار التعصب، بحيث لا يستطيع الغالبية من المتعصبين رؤية الحقيقة عبر غشاوة التعصب والتبرير، فلا تؤثر في ذلك الإطار الهزيمة ولا الفوز، فإذا كان الفوز متكرراً فما هو إلا جزء من العظمة التاريخية التي لا تقهر، وإن كان جديداً فهو دليل تجدد وحيوية هذا الفريق، وفي المقابل عند الفريق الآخر ففي حال فوز الخصم، فهو فوز قليل ضمن ماضٍ من فوز فريقهم.. على سبيل المثال وإلى آخر تلك المبررات التي لا يعدمها محبو الفريقين والتي تمتلئ بها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بما يشبه أمواجاً عاتية من المنشورات والردود والتعليقات التي تلفت انتباه المتابع العادي وتدعو إلى استغراب واندهاش غير المهتمين بالشأن الرياضي.

  
مما يلفت الانتباه اشتراك الجميع في بعض الأفكار المعلبة والجاهزة، فبالرغم من جماعية لعبة كرة القدم ومؤسسية الأندية وقيامها على لوائح وقوانين، إلا أن اتخاذ فرداً واحداً ليبدو زعيماً للفريق، تُنسب إليه النجاحات وتُعقد عليه الآمال وتبرر بغيابه الإخفاقات، يبدو ذلك عاملاً مشتركاً مع بقية مجالات الحياة ولعل أهمها هو مجال السياسة. كذلك فكرة تمجيد الناجح لدرجة التقديس وجلد المتعثر حتى ولو كانت أولى عثراته بما يشبه الثَور الذي تكاثرت عليه السكاكين بمجرد وقوعه.

   

بقدر تطور المجتمع يتم احترام القوانين والأفكار مقابل تقديس الأشخاص في المجتمعات البدائية أو التي تعيش تحت وطأة الدكتاتورية
بقدر تطور المجتمع يتم احترام القوانين والأفكار مقابل تقديس الأشخاص في المجتمعات البدائية أو التي تعيش تحت وطأة الدكتاتورية
   

إذا لم يضعني القارئ ضمن إطار مسبق، كأن يعتبرني ضمن فريق خصمه، أو يعتبرني من ضمن من يعادون المظاهر المدنية للحياة ممن يعتبرهم الرجعيين، فسيستطيع فهم ما أقصد بلا عناء، ولكي لا أقع في فخ التفكير الإطاري فلا ينبغي أن استخدم هذا الإطار لأفسر به، وحده، سلوك هؤلاء أو أولئك، فهناك من العوامل الأخرى ما لا ينبغي تجاهله في تحليل سلوكٍ ما أو محاولة فهم ظاهرة ما، كما أن ظاهرة التعصب الرياضي تكتسح العالم كله ولا تختص بعالمنا العربي الذي قد يتميز باستنساخ هذا النمط في حياته السياسية والاجتماعية.

  
دعوني لا أتمادى في الكلام أكثر، حتى لا تنكشف ضحالة معلوماتي الرياضية، التي اعترف بها، في مقالة أناقش فيها أنماط التفكير واتخذ من الرياضة طريقاً لتفسير جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية. فهل يُفهَم ما نحن فيه قلاقل ومشاكل بهذا المثال شديد الوضوح؟ في حياتنا نمارس ذات الجدل وذات طريقة التفكير الاختزالية في مناقشة مشاكلنا، نضع إطاراً مسبقاً نحمي به ما نحب ونصب كل الأحداث صباً لتبرر كل الأحداث حولنا، ولا تكلف أنفسنا عناء البحث والتحليل أو على الأقل التفكير خارج الإطار، ذات السذاجة التي نمارسها في متابعة الكرة، نمارسها في التعامل مع الأحداث السياسية والمجتمعية مع الفارق أن متابعة كرة القدم لا تترتب عليها،غالبا، تلك النتائج الوخيمة التي تترتب عليها طريقة تعاملنا مع أحداث الحياة التي تخصنا نحن لا غيرنا، كما هو الحال في تعصبنا لفرق وأندية عالمية.

  
ويبدو أن نزعة البحث عن زعيم وقائد، هي نزعة قديمة، بدأت منذ الإنسان الأول الذي فضل العيش في جماعات، لكن عوامل التطور يفترض أن تكون قد هذبت من هذا السلوك، ليشترك الجميع في إطار مؤسسي واضح في إدارة شئون الحياة، وبقدر تطور المجتمع يتم احترام القوانين والأفكار مقابل تقديس الأشخاص في المجتمعات البدائية أو التي تعيش تحت وطأة الدكتاتورية، كما أن الأطر المسبقة هي أكثر مصادر مشاكلنا انتشارا ً، وبها تفسر معظم خلافاتنا التي لا تصل إلى حل رغم طول مدة الخلاف، فالكسل الفكري يدفعنا لتفسير كل اخفاقاتنا بأي مبرر والبحث عن حلول خارجنا كالمؤامرة الخارجية، والهروب من كل انتقاد بمبرر اللحوم المسمومة، وقتل كل تجديد أو تغيير بداعي السمع والطاعة، أو وحدة الصف أو درء الفتن، والسكوت على كل ظلم لذات المبررات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.