شعار قسم مدونات

إلى العَلمانيّين.. الدين والسياسة فصل لا تمييز

BLOGS - QURAN

تستدعي هذه المقالة طرحا للدكتور سعد الدين العثماني جعله عنوانا لأحد كتبه وهو "الدين والسياسة تمييز لا فصل". وربّما من الإنصاف ألّا ننسب هذا الطرح من حيث نشأتُه إلى الدكتور العثماني، ذلك أنّ غيرَه كثيرٌ من القدامى والمحدثين قد سبقه إلى ذلك في معرض التمييز بين آيات القرآن الكريم أو بين تصرّفات الرسول صلى الله عليه وسلم وإنْ بتأصيلات مغايرة وتعبيرات مخالفة، وتفصيل هذا على الأقلّ في كتابيْن للدكتور العثماني وهما "الدين والسياسة تمييز لا فصل والتصرفات النبويّة السياسيّة". ونحن هنا نستدعي الطرح استدعاءً عكسيّا. فالظاهر من كتابات الدكتور العثماني أنّه يستهدف بها جمهور الإسلاميّين بالدرجة الأولى، ونحن بهذه المقالة نستهدف جمهور العَلمانيّين، ونخصّ بها منهم النخبة السياسيّة والإعلاميّة والفنيّة والجامعيّة.

 

إنّ الأصل عند هؤلاء في فهم العلاقة بين الدين والسياسة هو الفصل مطلقا. إلًا أنّ فهمهم لتصرّفات غيرهم وخاصة الإسلاميين بالدين أو السياسة قائم على أساس الخلط مطلقا بقصد أو بغيره. فهم يعيبون ليلَ نهارَ على الإسلاميين الخلط في تصرفاتهم بالدين وبالسياسة ولكنًهم يقعون في خلط بين طرفيْ نفس الثنائيّة أخطر، وهو الخلط على مستويات التلقّي والفهم والتأويل والنقد والتقييم.

  

يُصرّ العَلمانيون على التعامل مع أي تصرّف بالدّين من لدن الإسلاميين على أنّه من سياسة الإسلاميّين، ومع أيّ تصرّف بالسياسة من الإسلاميّين على أنّه من دين الإسلاميّين. ولعلّ الأخطر هو سحبهم أحكامهم هذه على تصّرفات الشعوب عامّة بالدين أو بالسياسة وليس على تصرفات الإسلاميّين فحسب. وقد يصل بهم تعاملهم هذا إلى درجة تسييس فهمهم العبادات تسييسا اعتباطيّا كتسيسهم فهم صلاة الجمعة، وفهم الزكاة وفهم الصيام وفهم الحجّ وفهم كلّ عبادة هي في الأصل طاعة وتعبّد، بل وحتّى تصرّفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

  

خلط الإسلاميّون منذ نشأة حركة الإخوان المسلمين بين الديني والسياسي. إلا أن ذلك الخلط كان مُبرَّرا تبريرا مقبولا بالشمولية
خلط الإسلاميّون منذ نشأة حركة الإخوان المسلمين بين الديني والسياسي. إلا أن ذلك الخلط كان مُبرَّرا تبريرا مقبولا بالشمولية
  

ففي تونس مثلا خرج نفر في شهر رمضان المنقضي إلى الشوارع للمطالبة بفتح المقاهي والمطاعم في النهار بعد أن فعّل الوزير المُقال لطفي براهم تراتيب غلقها، فذهب نفر من المحلّلين إلى نسبة لطفي براهم إلى حركة النهضة بل إلى نسبته إلى "الخوانجية" أي الإخوان المسلمين. وفي تونس أيضا قرأتْ الجامعيّة سلوى الشرفي غزوة بدر الكبرى على "أنّ جماعة مكة أرادوا تأديب المسلمين الذين كانوا ينهبون قوافلهم. كانت الواقعة إذن مجرّد "عركة" بين أولاد عمّ من نفس القرية. جماعة تجّار وجماعة قُطّاع طرق، وفي لغة الإسلاميين جماعة الاحتطاب. وانتصر قُطّاع الطرق" على حدّ قولها. ومؤخّرا شنّ إعلاميّ من قناة الحوار التونسي هجوما إيديولوجيا عنيفا على الفريق الوطني بسبب انتشار صور قراءة مدرّبه نبيل معلول وبعض اللاعبين الفاتحة قبل مباراتهم ضد المنتخب الإنجليزي التي انتهت بانتصار الأخير في نهائيات كأس العالم الجارية، داعيا المدرّب إلى قراءة المنافس عوض قراءة الفاتحة بلهجة استخفاف وسخرية وصخب.

  
لقد خلط الإسلاميّون منذ نشأة حركة الإخوان المسلمين بين الديني والسياسي. إلا أن ذلك الخلط كان مُبرَّرا تبريرا مقبولا بالشمولية التي طبعت أداء الإسلاميين الذي تأثر بشمولية الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية، إذ كانت تلك الأنظمة – ومازالت – تراهن في أدائها الحكومي على النخبة الإعلامية والفنية والرياضية وبقدر أكبر على النخبة الدعويّة، ولذا حاول الإسلاميون العمل على مختلف الوجهات بما فيها الوجهة الدينيّة الدعويّة.

 
ولئن راجع الإسلاميون عبر أزمنة متعاقبة ومراحل متلاحقة وأقاليم مختلفة وتجارب متنوعة هذا الخلط في الأداء نقدا وتقييما وتقويما وصرّحوا بذلك في مخرجات مؤتمراتهم فإنّ جمهور العلمانيين مازال يصرّ إلى الآن على فهم أي فعل أو قول يصدر من الإسلاميين على أساس الخلط، في حكم صريح على النوايا ومروق سافر على نواميس التلقي والفهم السياسيّيْن. ولنا في تونس مثلا وفي تلقّي النخبة العَلمانية لمخرجات مؤتمر حركة النهضة خير دليل، فرغم تأكيد الحركة على مبدأيْ التخصّص المفضي إلى التمييز بين الدعويّ والسياسيّ والتوافق القاضي بالانفتاح على كامل شرائح المجتمع التونسي فإنّ المتلقّي العَلماني مازال يقارب هذه الإنجازات بمفردات السبعينيات وخطابها، أي بحشر النهضة في زاوية الإسلام السياسيّ بدلالاته المنحرفة والمتطرفة التي يُروَّج لها.

  
ولا ننوي بهذه المقالة ترسيخ الفرقة بين الإسلاميين والعَلمانيين في تونس ولا نصرة طرف على حساب آخر، وإنّما نقصد بها توجيه رسالة إلى الفاعليين العلمانيين وشركاءهم في أحكامهم بضرورة الفصل منهجيا بين الديني والسياسي في التعاطي مع تصرفات المخالف الإسلاميّ بالدين أو بالسياسة، وبضرورة تغيير زوايا النظر بما يتيح رؤية الظواهر على حقائقها لا على الرغبات والأمنيات، وهذا على سبيل محاولة إقناع العَلمانيين بضرورة المراجعة التي لا بدّ أن تقوم أساسا على التصالح مع الظواهر قبل التصالح مع الذوات ومع الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.