شعار قسم مدونات

ماذا لو كان زيدان من فصيلة الحكام العرب؟

مدونات - زين الدين زيدان
 
من المؤكّد ألا أحد كان يتوقع إقدام مدرب فريق ريال مدريد على الاستقالة من منصبه بهذا الشكل المفاجئ سواء لمحللي الكرة المستديرة أو لعشاقها، خصوصاً وقد أنهى الموسم بإحرازه لأمجد وأغلى الكؤوس الأوروبية للمرة الثالثة له على التوالي، ليكون أول مدرب يحقق هذا الإنجاز التاريخي في النسخة الحالية للمسابقة. ولذا، فلا يمكن تقييم تجربته رفقة النادي الملكي إلا بكونها مثالية، ومع ذلك استقال.
 

المعلم زيزو تربطه علاقات صداقة متينة بأبناء نادي العاصمة لإيمانه بمؤهلاتهم التقنية وثقته في قدرتهم على تحقيق مزيدٍ من الألقاب، وهذا ما ساعده بشكل من الأشكال على خلق ظروف عمل أفضل للاعبيه وتعزيز أواصر الانسجام بينهم، محثّاً لهم على التركيز التام على الهدف المرسوم بعيداً عن أعين الكاميرات وتشويش الصحف. فكان له ما أراد ونال ثقة الإدارة ومحبّي الميرينغي كما حظي أيضاً باحترام كبير من قِبَل الخصوم، ومع ذلك استقال.

 

كثُرَت التحليلات داخل الوسط الرياضي بشأنِ الأسباب التي دفعته لأن يقدّم استقالته، وتعدّدت الأسباب بتعدد المحللين، لكن زيدان صرّح بشكل واضح وقال في ندوته الصحفية أن مصلحة النادي تقتضي ذلك وأن سفينة الفريق تحتاج لربان اَخر يقودها ويضخ دماءً جديدةً في هياكلها. وقد حاولت الإدارة أن تثنيَه عن قراره قبل انعقاد الندوة، وربما عرضت عليه امتيازات تغريه بالبقاء وتهزم إصرارَهُ على الرحيل، ومع ذلك استقال.

 

مفهوم "الاستقالة" بمعناها الزيداني، لا توجد في قاموس الحكام العرب. فلم نسمع قط أن حاكما عربيا قد استقال من منصبه بشكل حرّ وإرادي بعدَ تقدير خاطئ للأمور أو فشل سياساته

يُفهِمُنا زيدان أن الاستقالة من منصبٍ مسؤولية ما أيّاً كان مستواه، هي ثقافة قبل أن تكون قراراً. وأنّ التعلّق بالمناصب نقيصة لا تُحمَدُ عواقبُها لأنها تجمّدُ روح التغيير في أساليب تسيير أية إدارة، سواء أ كانت نادٍ رياضي أو مؤسسة تعليمية أو شركة أو حزب أو دولة. المستقيل خاصة حينما يكون ناجحا في أداء المهام التي وكلت إليه، فهو غالباً ما يبدر عنه ذلك ليس خوفاً من تحديات جديدة أو إخفاقٍ مرتقب بل حرصاً على السير العام والسليم للمؤسسة التي يشتغل بها ومستقبلها.

 

فن الاستقالة الحرّة تكسبُ المستقيل الناجح احتراماً ومكانة مميزة في نظر الاخرين، حيث يلمسون فيه جانباً من اللامعتاد وكيف أنه يقدّم المصلحة العامة للمؤسسة على حساب مصلحته الشخصية.

 

على الجانب المقابل من درس زيدان في التعفف عن المناصب ونأيه عن حمل الأمانة لثقلها وعجزه، يوجد من لم يبرح كرسيّه البتة مذ أن تولى منصبَه. لا تخمّن كثيراً، فالمقصود معلوم وكيف لا يكون معلوماً وقد تجذروا في عمق مناصبهم وأحكموا قبضتهم على دواليب الحكم في بلدانهم، هم الحكام العرب إذا. إن كان زيدان لا يرى نفسه قادراً على مواصلة سلسلة النجاحات بنفس الدرجة من الفعالية مع نادٍ لكرة القدم، فإن الحكام العرب يرون أن بقاءهم من عدمه ليس رهينا بفعالية سياساتهم ولا برضى الشعوب عن أدائهم وإنما بقدرتهم على البطش بمعارضيهم والإجهاز على كل صوتٍ حرّ ينادي بترسيخ حقيقي لمبادئ الديمقراطية.

  

زين الدين زيدان (الأوروبية)
زين الدين زيدان (الأوروبية)

 

الحاكم العربي يُفهِمُنا أن معايير النجاح لا تتمثل في التفاني في العمل وبذل مجهود أكبر لتحقيق المراد، وإنما ببيع الذمم والانصياع التام لنظام الحكم والتنازل عن كل القيم الإنسانية و-ترهات حقوق الإنسان-. ولذلك، فما إن يصل حاكم عربي إلى سدّة الحكم حتى يبدأ بتثبيت دعائم الحكم ممهداً لتأبيد جلوسه وجلوس أبنائه من بعدِهِ على العرش.
 
مفهوم "الاستقالة" بمعناها الزيداني، لا توجد في قاموس الحكام العرب. فلم نسمع قط أن حاكما عربيا قد استقال من منصبه بشكل حرّ وإرادي بعدَ تقدير خاطئ للأمور أو فشل سياساته في تدبير شؤون الدولة. لأنهم ببساطة لا يرون أنفسهم بشراً عاديين أو موظفين لدى شعوبهم وإنما قَــدراً سماوياً أنزلهم تلك المنزلة المقدسة. فكيف لهم أن ينازعوا الله في إرادته، إنهم إذاً لمن الكافرين؟

 

في البلاد العربية، يبدو أن المعادلة قد انقلبت، فبعد أن سئمت الشعوب من استقالة حكامها، ها هي تبادر بنفسها بالاستقالة من منصب المواطنة، فمنها من لجأت إلى دول تقدّرُ كينونتها وحقها في الحياة ومنها من قضت نحبها وسط الطريق فغرقت في البحار والمحيطات ومنها من تنتظر. الإحساس بالمسؤولية منعدم لدى الاَخذين بناصية الشعوب العربية، كل ما يهمهم هو كيفية الحفاظ على عروشهم، وشعارهم في ذلك "من العرش إلى النعش". فتصور معي، لو أن زيدان ينتمي إلى فصيلة الحكام العرب، أكان ليقدّم استقالته؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.