شعار قسم مدونات

رزان التي كُنتُ أُريدُ أن أكونَ يوماً

مدونات - رزان النجار

من مراهقاتي الثانوية، حلمٌ ترآى لي في مرحلة الانقلابات الجوهرية، تأثرتُ بأخبار البلد التي اعتدنا أن تكون خبر كل يوم وبطل مسلسلاتِ كل عام إلا أن تكون نفسها قضيتنا المحورية، حلمٌ صغيرٌ بدراسة التمريض أو الطب لأختار الفرع العلمي علّي أستطيعه، ممرضةٌ يافعةٌ تَرتُقُ جِراح إخوتها في أطهر بقاع الدنيا وأكثرها مظلوميةً فلسطينُ الأبية، لا تأبهُ لرقيقِ عودها متطلعةً لسمو موعودها ونُبل مطلوبها، تُثبتُ أحقيَّتها من أرض الإسراء بعَرَقِها والدم الطاهر الذي يُراقُ في حِجرها، تلك رزانُ النجار التي كنتُ أريدُ أن أكون يوماً.

 

ظروفي الجغرافية آنذاك لم تسمحَ لي باستكمال السعي للحلم مع زهدي بكل متاع الدنيا عداه، لكن كثيراً ما تقف الجغرافيا حائلاً بيننا وبين ما نحلم به ومن نحلمُ فيه، تزامن ذلكَ الحلم مع بعض أحداثِ الظلمِ والقهر العربي، استباحة العراق وتقطيع أوصاله، واستئصال جذوة النهضة قبل بزوغها، حروب متكررة على غزة، وانتهاكٌ سافرٌ لحرامات الأقصى، لكنْ في أفقي تتلألأُ يدانِ صغيرتانِ لفتاة ٍسوريةٍ تَخيطُ جُرح أحد الأحرار في غزَّةَ وأريحا والقدس، كانت تَرتَسمُ ابتسامةٌ تلقائيةٌ أثناء معاينة حلم اليقظة حتى في درس الكيمياء أبغضِ الموادِ الدراسيةِ حينها، لا جَزَعَ رغم مناظرِ الدماءِ المتخيَّلة ولمس الأشلاء المقطَّعة رغم هشاشة صاحبة الأُمنية فذاك الفردوسُ المُشتَهى، صور القناديلِ المضيئة تَحّفُ الحلمَ ويَسهلُ الدرب رغم الحدود والحواجز التاريخية أو ما أوهمونا أنها كذلك، معذورةُ الهوى أنتِ يا فتاة، ومعذورةُ الهيام والحسرة أنا.

 

ربما ليس في متناولِ يدي أن أخيط جُرحاً أو أغمض عيناً ما فتئت تقاوم المخرز، لكنّ من العزيمة أخيطُ حُلماً لجيلٍُ سواعدهُ محاريثَ تجتَّثُ الخُبثَ والحنظل من أرض الزيتون والمسرى

كانت التواريخُ من أهمِ الأشياءِ التي أُدوِّنها على أي كتاب أو دفتر ربما لأنها مواعيد فراق الأحبة ولقاءء الأوجاعِ اللامتناهية في هذا الزمن المُر، ١/٦/٢٠١٨ تاريخٌ دوَّنتُهُ على صفحةِ القلبِ حيث امتزجَ الخيالُ بالواقع لأرى رزان التي كنتُ أُريدُ أن أكونْ تُصبح اليوم كما أرادت أن تكون وترتقي إلى حيث اتخَّذها بارئُها حوريةً في أبهى مكانٍ يمكن أن نكون فيه لنحقق غايةَ كينونتنا، تُستَشهدُ مرابطةً على سياج مسيرات العودة منتفضةّ مع شعبها الفلسطيني في أمواج المظاهرات السلمية التي انطلقت من ربيع الثورات العربية وستُغرق بني صهيون إن شاء الله، لتؤكد عبثيةَ محاولةِ الجلادين فلا فناءَ لصاحبِ حقٍ مِدادُ قضيتهِ دمهُ وشعلةُ سراجهِ مآقي عينيه.

 

واحدٌ وعشرونَ عاماً تبلغ الممرضة الشهيدة وهو نفسُ العمرِ المُفتَرضِ لتَخَّرجي من الجامعة والتحاقي بها في أرض العزة، يغتالها قناصٌ حاقدٌ على الإنسانية في ثوبها الأبيض الوحيد بعد حرقها ما عداه من أثواب على أرصفة الهيئات الدولية بينما أُغتيلَ حلمي في بلدٍ عربي اسمه سورية، يَدَّعي حُكَّامه مقاومة قاتل الصَبيَّة ويحرسون العدوَ العلني صديقهم السريَّ بُكرةً وعشيةً، ليَسحلونا أو يُخفوننا خلف القضبان إن لوحنا بسيفٍ من خشب لمغتصب مقدساتنا، فلا تلومينا يا غزة واعذرنا يا أقصى وسامحينا يا رزان فسادةُ بلدي علّموا سارقي بلدكِ الإجرام والبربرية وأعطَوهم الضوء الأخضر للإجهاز عليكِ والتنكيل بالبقية الباقية منكِ ومني.

كان عليَّ أن أجدً مُتَنفساً أخر لمراهقاتي المعتقلة، ربما ليس في متناولِ يدي أن أخيط جُرحاً أو أغمض عيناً ما فتئت تقاوم المخرز، لكنّ من العزيمة أخيطُ حُلماً لجيلٍُ سواعدهُ محاريثَ تجتَّثُ الخُبثَ والحنظل من أرض الزيتون والمسرى، وبالإمكان رسمُ خريطة الكرامةِ العربية خاليةً من سرطان الصهيونية مستقرةً بعزة في ضميرِ تلاميذي وأطفالي، أمهليني يا رزان هُنيهة عليَّ تغيير البوصلة قليلاً فالعدو الآن بيننا، كل مستبد ظالمٍ حتى من أبناء جلدتنا هو عدونا، كل من يحاول سلب كرامتنا وحريتنا لمصلحة أعداء الوطن والقضية، هم العدو قبل الصهاينة فلنحذرهم ولنقتلعَهم من أرضنا ولَيموننا وحاضرنا لتكون فلسطين وتبقى مستقبلنا، سنبني بلداً عقيدةُ شِيبهِ وشبابهِ هي الأقصى، ونُعِدُّ جيوشاً تَفورُ روحها بالحرية لتُضرِمَ النارَ بكلِ أصرحةِ فرعون وهامان ومن لفَّ لفهما.

 

أرقدي بسلامٍ يا جميلتي لن أتخلى عن حلمي وكُثّرٌ من أبناءَ وطننا الواسع، فأنا مرابطةٌ هنا وبيني وبينك طغاةٌ ومُقعَدون وجُبناء وخونة، سنسحقهم كلهم وأعلِّمُ الأطفالَ الكفر بهم والانقلاب على عمالتهم علّي ألحق بطيفِ مجدكِ، سنزحفُ ونثأرُ لدمكِ وملايين الأنفس الذكية التي وُهِبت لهذه الأرض وقد تتضرجُ مُهّجُنا حيث ارتقيتِ لكن لن تُبارح فلسطين وستبقى قضيتنا وأقدس أقداسنا، لن ننسى أمانتكِ وأمانة إخوتك السابقين فهي محضر الحقِ الذي ما زال يُثبتُ وجودنا الأزلي في وجه غوغاء باطلهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.