شعار قسم مدونات

إضراب الإردنيين.. هل سيكون مجرد صراخ؟!

مدونات - إضراب الأردن
الإضراب كان سقف ما يمكن السماح بالقيام به في الأردن، ما بعد ذلك سيكون اعتراضات محدودة ومشاورات، وسواء أقر النقابيون أم لا فالإضراب حصل على ضوء أخضر من الدوائر برغم المناكفات الشكلية والتي أضافت نكهة للمشهد ولم تغير ما وراءه. والسيناريو الأرجح حول قانون الضريبة هو أن الحكومة ستنتظر رفض النواب للقانون ورده بشكل يعطي بعض الهيبة للمجلس من خلال منح النواب فرصة لإلقاء الخطب والاستعراض، ومن ثم يتفاخر النقباء والنواب بالوطن الديمقراطي المبهج. ولكن الواقع أن من صمم هذا القانون بتفاصيله الحالية يعلم بأنه ستكون هناك معارضة لتقديم ضريبة جديدة ولذلك قدمت هذه الضريبة بالنسب المطروحة بهدف صدم الجمهور بهذه النسب والتفاصيل فيتحول النقاش من لماذا تفرض الضريبة إلى كيف ستفرض الضريبة وما هي تفاصيلها.
 
إذا درست سياسات البنك الدولي مع مختلف الدول النامية التي أثقلتها الديون، تجد بأن البنك لا يفرض أرقام أو نسب ضريبية معينة على أي حكومة وإنما يطالب بزيادة تدريجية للضرائب وتطوير شبكة جبيها من أجل جدولة واقعية للديون، أما كيف ينجز ذلك فهو متروك لاجتهاد الحكومة محليا وما تعتقد بأنها تستطيع أن تفي به وان كان البنك يحث على بعض الممارسات المجربة في الغرب لكن نماذج مثل البرازيل وتركيا تقدم أمثلة على تبني سياسات مناسبة للواقع المحلي كفيلة بالنهوض بالاقتصاد أولا قبل إغراق المواطن بالضرائب من أجل سداد ديون المؤسسات الدولية ومن المهم أن نذكر بأن البرازيل وتركيا تصدرتا قائمة الدول الأكثر مديونية قبل أقل من عقدين.
  

المواطن الأردني إذا ما حسبنا حصته من المديونية بتقسيم الأربعين مليار على عشرة ملايين نسمة فهي قرابة أربعة آلاف دولار، هذا الرقم سيتم تحصيله من جيوب الأردنيين بطريقة أو بأخرى
ولكن الحكومات التي تبحث عن أسهل الحلول عليها لضعف قدراتها في إطلاق البرامج والمشاريع تلجأ إلى الضرائب المرتفعة المباشرة وغير المباشرة، ولذلك فإن الإضراب على جمال مشهده كان وسيلة مناسبة لتفريغ الغضب الشعبي، وبعد مراجعة القانون بعد رده المتوقع من مجلس النواب سيخرج الجميع ظنا أنه فعل شيئا عظيما وهو بالكاد نفخ على موج البحر وظن أنه هو من يحركه. والنتيجة هي شعب فرغ شحنات غضبه، وحكومة قدمت قانونا أريد له أن يرفض ثم يبدو في النهاية وكأنه تم التراجع عنه استجابة للإرادة الشعبية التي ستشعر بأنها انتصرت أو كادت من خلال تخفيض وهمي قادم في النسب دون تراجع عن مبدأ الضغط على المواطنين لتسديد الديون.
 
ونذكر أن حكومة عبد الكريم الكباريتي مطلع التسعينات رفعت أسعار الخبز من ثمانية قروش لإثنين وعشرين قرشا للكيلوغرام بسبب شروط البنك الدولي وصندوق النقد، وقتها تحرك الشارع ضد هذا الرفع ولعن الشارع الكباريتي وكأنه أجرم ولم يجرم قبله أو بعده أحد، ومن ثم سحب القرار وتم الاكتفاء برفع السعر لخمسة عشر قرشا، واحتفل الشارع بإنجازه وتقبل السعر الجديد للخبز الذي كان قريبا من ضعف سعره السابق. بعدها قال خليفة الكباريتي عبد الرؤوف الروابدة في مقابلة على شاشة التلفزيون الأردني انه لا يوجد رئيس وزراء يقوم بدور يختاره هو، كل رئيس وزراء يقوم بأدوار مكتوبة عليه لتمرير سياسات تقتضيها المرحلة، والدرس هو أن بعض رؤساء الوزراء يقدمون على أنهم رجال متعالين متعنتين لا يشعرون بالشعب وهؤلاء من يلعنهم الناس أثناء فترة عملهم وبعدها لكنهم يكافؤون بسخاء من مال ذات الشعب الذي يلعنهم.
 
undefined
 
الخلاصة أن هذا النهج ليس جديدا في الأردن أو في العالم الثالث عموما، فعندما تدرك الحكومات بأن اقتراضها وفسادها يقود إلى تراكم الديون وضرورة اللجوء في النهاية إلى الضرائب كحل سهل تعتمد هذه الحكومات على صدم الشارع بقوانين مجحفة تستدعي غضبا ثم يتم التراجع تدريجيا لكي يتقبل الشارع قوانين اقل إجحافا. لكن السؤال هل الشعب المنتشي بإضرابه التاريخي جاهز للتعامل مع مرحلة ما بعد التراجع عن القانون وتقليم مخالبه المفترسة؟ فالخطر في مسألة نشوة التعبير والتفريغ النفسي للغضب هو أنه يعطي شعورا وهميا بالإنجاز، أو توقعات بتغيير جذري استجابة للغضب الشعبي، غير أن الواقع هو أن المواطن الأردني إذا ما حسبنا حصته من المديونية بتقسيم الأربعين مليار على عشرة ملايين نسمة فهي قرابة أربعة آلاف دولار، هذا الرقم سيتم تحصيله من جيوب الأردنيين بطريقة أو بأخرى ولكن بينما تناور الحكومة بين أساليب تحصيل هذا الدين الذي سيجبى تدريجيا على مدار خمس أو عشر سنوات ستكون الحكومة قد استدانت بالنيابة عن كل مواطن ما لا يقل عن ألف دولار جديدة ناهيك عن الفوائد.
 
بالمحصلة وصلت الأردن إلى مرحلة تعجز فيها الحكومة عن التخطيط للنهوض بالاقتصاد وأحوال السكان وتلقي بمشاكلها على كاهلهم، ولذلك يقف المواطن أمام معادلة أن من واجبه أن يخطط لدفع أربعة آلاف دولار خلال السنوات العشر القادمة من خلال زيادة دخله بشكل أو بآخر. ولكن هذه المعادلة تقتضي على المستوى السياسي الغوص في تفاصيل تفاصيل الإدارة المالية في الدولة وما تقوم به لحل مشكلة الفساد وإهدار المال العام وذلك لمنع الحكومة من اقتراض المزيد من القروض أو على الأقل لمنعها من إعادة اساءة الإنفاق. وعلى المستوى الاقتصادي على السكان التعامل مع حكومتهم على أنها رجل كهل أورث الديون لأبنائه فلا يرجى منه الكثير اليوم سوى تهيئة الطريق لهم ليمضوا في طريقهم شريطة أن لا يقامر بمزيد من سنوات مستقبلهم.
 

كل ما سبق يحتاج ثورة وعي بالمعطيات الموضوعية واستثمار طاقات الجيل الجديد بما هو أكثر من السخرية والاعتراض، لأن هذا الجيل اذا لم يغص في تفاصيل ما يحدث يوميا من إهمال أو فساد أو سوء إنفاق أو عجز في السياسات الاقتصادية سيجد نفسه خلال عشر سنوات غارقا في ديون بسبب الضرائب التي ستزيد مقارنة بما يناقش اليوم، وستكون الإضرابات حينها مجرد صراخ في مساحة للتعبير، ننفس فيها عن الغضب ونلعن من نلعن ثم نعود للعمل لندفع مكافآت من لعنّاهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.