شعار قسم مدونات

"المارد الذكي".. كيف يتحكم في حياتنا؟

مدونات - رجل وموبايل

تَمرُّ الأيَّـامُ مسرعةً، تُواكب التطوّرات المُتلاحقة في شَتّى الزَّوايا هُنا وهُناك، حَتَّى أصبحَ هُناك "ماردٌ ذكيٌّ" يَصحَبُ كُل شخص منّا على حِدى، ماردٌ كَصاحِب عَـلاء الدين مثلًا، يرافقهُ بوجود هذه النَّقلات والتغيُّرات ويُعايَشهُ بتصالُحٍ تام! اُسطورة المَـارد السِّحري أصبحت حقيقة، بطريقة أو باُخرىٰ مع اختلافٍ مَلحوظ في الاحجام والأعمار والأوصاف والخَدَمات، لكنّهَـا لنفس الهَدف ومن أجل غاية واحدة تحتاج لقليل من التفكّر لمعرفتها.

 
ماردُ زماننا ذكيٌّ جِدًا، وخبيثٌ جدًا، يقدِّم كُل ما بوسعهِ لإرضاء -علاء الدين- وهو بصفة اُخرى -نحنُ-. يجعل منَّـا أشخاص مُتشبِّثين فيه، مُلازمينَ لهُ، عابدين إيَّـاهُ في أحاينَ كثيرة، ونَجعل منهُ عبدًا وإلـٰهًا مَـعًا أحدهما وُجدَ لإشباع الشَّهوة وآخرَ لمُداراة المَشاعِر والمُتطلَّبات وتنفيذها بأسرع ما بُمكن وبأبهى صورة. َمسَحُ على جَبهتِهِ ليُطيعَ أمرنا بسرعةٍ أسرع بكثير من صاحب علاء الدين الذين لربما استغرق وقتًا في بناء القصر وجمع المال، ويتلقّى صَفَعات أناملنا على وجهه بصدرٍ رَحبٍ وَسيع من دون كَلَلٍ أو مَلَل. ممَّـا يجعل من نُفوسنا راضية تمامًا، وساخطة إذا ما تأخّر هذا المَارد بالاستجابة أو عدم الفَهم. ثُمَّ إنّهُ ساحةُ تفريغٍ للطَّاقات والتقلّبات، ويتحمَّل مزاج صاحبهِ أيًّـا كان، يضحك، يبكي، يصرُخ، أيًّا كان السّمعُ والطَّاعة أمرٌ يُمتَثلُ لَهُ في كُل مرَّة وعند كُل أمر. ثُمَّ بالمُقابل ؛ آمينَ آمين على كُل ما يُصوِّرهُ وينقلهُ لنا، وكُل ما يزرعهُ في دواخلنا بمجرد فتحِ قلبهِ وجوفه لمَعرفة آخر أخباره وخدماته وتطبيقاته الجديدة.
   
ولكن ما يُميِّز مَاردنا هَـٰذا أنَّـهُ يمتلك خاصيَّة خارقة جدًا، بخلاف ما كان يمتلكه مَارد علاء الدِّين، فَعلاءُ الدّين بقيَ كما هو، لَم يَتلوَّن ويتبدّل في كُل لقاء له، إنما كانَ هو هو على كُل حال، أمام السُّلطان والوزير، أمام حبيبتهُ ياسَمين، في الأسواق والأفراح والمُناسبات. أما ماردنا هَـٰذا فإنهُ -شبِّيك لبِّيك- في كُل لقاء، وكُل تراسل وتواصل، ومع كُل عارِض أو حَدثث!
     

ضغطَة زرٍ واحدة يفتح لنا هذا المِصباح ألوانه، ويستقبلنا المارد بكل تأهيلٍ وترحيب، ليسمع طلباتناا ويُطيع أمرنا على الفور. لكن! هل هَـٰذا كُله بالمَجَّان؟
ضغطَة زرٍ واحدة يفتح لنا هذا المِصباح ألوانه، ويستقبلنا المارد بكل تأهيلٍ وترحيب، ليسمع طلباتناا ويُطيع أمرنا على الفور. لكن! هل هَـٰذا كُله بالمَجَّان؟
  

مثلاً في (فيسبوك) مَا أقدرهُ عندما يَفتح لنا المجال بالتقلُّب بين الصُّوَر والصفحات والمَجموعات والنَّدوات التي نُريدها والتي تخدم مواقفنا في كُل زاويا من أزرق اللون هذا، ويكون لنا مُعينًا على تنفيذ الخدعَة بأكمل وجه، فترانا الشَّاعر، والأديب، والمُفتي وعالمُ الآثار وصاحب الإقدام، ومُغيث الملهوف، والسياسي المُحنَّك، والرِّياضي المُخلص، والمُحب بالعلَن الباغِضُ في الخفاء… وحَدِّث ولا حَرَج.شبّيك لبيّك بأي وقت وأي لون تُريد وحسب المَزاج الذي تمتلكهُ..!

"سناب شات" مثالًا آخر، يجعل من التسعينيّة مُراهقة شابّة في الخامسة عشر من عُمُرها، تَخدعُ مَرأى الرَّائي، وتظهَر بأطيب حُلّة وأزكى منظر، ورُبما بعد قليل برائحةِ عُطرٍ جَذّابة..! فتكونُ مَلكةَ جمالٍ بأسنانٍ بيضاء لامعة، وبشرةٌ مَشدودة مُشرّبة بالحُمرة، وَغُرَّةٌ مُتدلّية من حجابٍ يكادُ يَسقط، وعينانِ واسعتان يَعلوهما رِمشٌ كثيف ؛ مِمّا يُكمل خدعة البصر هذه، ويُلفت نَظَر الزاهِد واللاهِف!

عبر هذه الشَّاشة الصَّماء الصغيرة، التي صَيَّرت نفسهَـا عَبدٌ وآلهة – في الوقت نفسه – وجعلت منها ساحاتٌ وَملاعبَ وَطاولات للتعبير عن المَشاعر والخَلَجات، واستعراض المَعلومات والعَضلات، بحيث فيها مَن أراد، وَيتربّع من شاء على أيّ عرشٍ شاء، وأي نَغَمٍ حَبَّذا وأراد، ويُراوغ فيها كَثعلبٍ مَكّارٍ خَبيث. تجد فيهِ من يدّعي كُل حَسن : المثاليّة، والتحضُّر، وحُسن السيرة والسلوك، والصورة الطاهرة، والعلاقة الحميمة، والحُب!

 
الحُب كلمةٌ يختبئُ ورائها الكثير والكثير، فكم من قيسٍ وليلى جمعهم هذا المَارد العظيم، وألَّفَ بينهم، وحقَّق من شاء فيهِ مَا شاء، وكم من عنترَ وعبلُ فرَّقهم وشتَّتَ شَملهَم فضاعَ ذكرهُم بين حساب فلانٍ وفُلان، ورقم هذا وذاك، وكُلٌّ يدّعي وَصلًا وَشغفًا، ولا أحد يَعلم الحقيقة. الحُب نراه بين المَرأة مَع اُختها، والشاب مع صديقه، والمعلّم مع تلميذه ولكن؛ هَل يُعامَل هَذا المحبوب حَسَنًا في الواقع، أم هل يَظهر هذا الحُب عن طريق المُعاشرة والتعايش؟ أترك الجواب لكم.

 
 
undefined

 

ضغطَة زرٍ واحدة يفتح لنا هذا المِصباح ألوانه، ويستقبلنا المارد بكل تأهيلٍ وترحيب، ليسمع طلباتنا ويُطيع أمرنا على الفور. لكن! هل هَـٰذا كُله بالمَجَّان؟ دون أي مُقابل؟ ومن غير أي خسائر أو تهديدات! أنت مخدوعٌ عزيزي، مَاردك هَـٰذا عليهِ ضريبة فعلًا، والضريبة هو استعبادك أوَّلًا ثُم تسييرُك ثانيًا وامتلاك قلبك ثالثًا واستغلال عقلك رابعًا، وخامسًا وسادسًا وعلى هَـٰذا المِنوال عَدِّد.  حتى تُصبح مُجرّدًا تمامًا منكَ، من هويّتكَ وفِكرك وقلبك ونفسكَ وإيمانك وإسلامكَ ومن قوميّتكَ وعربيّتكَ لغةً وأصلًا، ومن مروءَتك وأحيانًا أخلاقك ومبادئك. يُجرِّدُك منك تمامًا حتَّى يُهلك حَرْثك ونَسلك – على نطاق تفكير أوسع-.
 

وَمع مَضي السنوات والأيَّـام وبالرّغم من سرعة الوَقت إلّا أنّ ماردنا يَزداد شبابًا ونضَارةً وحُسنَ مظهر، ومع كُل تحديثٍ وإصدارٍ لهُ يُقدِّم لكَ خدمات أكثر ليستعبدك أكثر وأكثر. ويُشغل عقلك وتفكيرك بكل تفاصيله. العَجيب بين حال ماردنا وصاحِبُ علاء ذاك أنَّ تأثيره يَمتد إلى ما بَعدَك أنت! فَيُخلقُ الجنين في بطن أُمّه، ويُؤَقَّت لهُ وقتًا، ثُم بقَدرِ الله يَخرج إلى هَـٰذا العالم ويُولدُ، فَيكبُر ويَنشأ ومع مرور الأوقات والليالي يَحبو، وبعد بُرهة يَقف ويتردد ثم يأتي الوقت ؛ فتدخل على بيتك وإذا بطفلٍ صغير يَمسكُ بماردٍ آخر ويُقلّب فيهِ وَينظر من غير سابق تعليم أو مُدارسة، يُقلبُ بين خدماته اللامعة، سارقة العقول والقلوب ليكون بعد ذلك عارفًا بحذافيره أكثر منك أنت!
   undefined

 
اللهُ أكبر! ما أسهل الحديث إليه وما أقوى مفعول عَمله! لهذه الدرجة؟ نعم وأكثر من هَـٰذا أيضًا. انظُر للأسواق، انظر للمدارس، حدّق في العلاقات الاجتماعية، ألقِ ببصركَ على الشَّوارع، ألم ترى ما أراه أنا؟ انظُر إلى ما حولك، كُلٌّ لهُ ماردٌ سحريٌّ خاصٌّ بهِ، شيءٌ مُقدَّس، يُعزَّز وُيُكرَّم ويُحافظ عليه أشدَّ مُحافظة، ويُهتَمُّ بهِ كَمعشوقةٍ يَخافُ عليها حبيبها من الرياح السائرة، والهواء المُتلاعب بين دفَّـات غُرفتها مُشرعة الأبواب.! أصبحَ أبًـا وأخًـا وأُستاذًا وإلـٰهًا.. قد تشعر بأني أُبالغ في كوني جعلته إلـٰهًا يُعبد ولكن هَـٰذه الحقيقة يا صديقي، لو نتمعّن أكثر سَنجد الأمر حقيقة عارية، ولكن ألم أقل لك أنَّـه ذكيٌّ جدًا؟ لاحظ لَم يفتح لكَ المَجال ولو لبُرهة أن تُفكِّر بهَـٰذا! ولن يترك..
   
طَمَسَ على قلوبنا وأبصارنا وأسماعنا وأذهاننا، كعبيدٍ لهُم فَمٌ للأكل وليس فيه لسان للكلام، ولهم أذنٌ للسمع وليس فيها حسَّاسٌ للأمان، ومُخٍ من غيرِ تَدبّرٍ وإلهام. آمينَ آمين، نسمعُ ونُطيع!! فرضَ قوّته وسطوتهُ على الزوجة والإبن والأخت والحفيد والقريب والبعيد، امتلكَ الجميع، سواء أكانَ هوَ أو ماردٌ آخر من نفس القبيلة. قالَ اللَّـه جَلَّت قدرته :"يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ " الأعراف.

 

إنهُ شيطان إلكتروني!

هذا واقع أعيشه أنا وأنت وأخوك وأبوك وخالك وصديقك وزميلك في العمل وصاحِبكُ القديم وحبيبك الجديد.. كلنا نمتلك مارد وننقله معنا الى ما نريد، وحيثما نُريد، في كل يوم لنُؤدّي لهُ الصلاة المطلوبة ونُحقق أهدافه وغاياته المرجوّة بأقرب حين وعلى أحسن وَجه. ما أريدهُ منكَ عزيزي القارِئ أنْ كُن حَذرًا، كُن مُتيقّظًا فالمَآربُ خبيثة والخَدمَات مُغرية والتحديثات عظيمة، اجعل نفسكَ ماردًا عليهِ، سيطر على محتواه، اقلب الآية رأسًا على عَقب، حقِّق غايتك السامية عليه ولا تَجعل من نفسك طُعمًـا لجهازٍ أبكم يتظاهر بالمَسكَنة والذُّل. كُن ماردًا عليه وبلِّغ رسالتي هَـٰذه، كَوقفةٍ للتأمُّل والتَّفكُّر ودعوةٍ للوَعي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.