شعار قسم مدونات

تجربتي مع الرضاعة الطبيعية..

blogs الرضاعة

في البداية أعتقد أننا يجب أن نغير من منظورنا لقضية الرضاعة الطبيعية. نحن في زمن أصبح الكثيرون يتعاملون مع الرضاعة وكأنها اختيار، يمكن لنا أن نلتزم به أو نتركه. هناك أيضاً للأسف من النساء من يستخدم مقولات مثل أن الأم ترضع أطفالها فضلاً لا واجباً في سياق المطالبة بحق المرأة من زوجها. والحق أن النساء عليهن أن يدركن أن الرضاعة ليست هذا ولا ذلك. الحليب الذي ينزل في صدرك مع ولادة طفلك أو قبلها ليس ملكك لتختاري أن تمنعيه عنه أو تمنحيه إياه. هو رزق هذا الطفل وأول ما يدخل جوفة في هذه الحياة. لذلك علينا أن نعي أن الرضاعة الطبيعية ليس اختياراً ولا فضلاً بل واجباً ومهمة صعبة يجب على الأمهات محاولة أدائها على أكمل وجه وفق ما يقدر الله. أما أن نحرم الطفل من حقه عند أول عقبة، أو لأسباب شخصية كالحفاظ على رشاقة القوام أو تحاشي الترهل، أو حتى تتحرر الأم من ارتباطها بطفلها فهذا من وجهة نظري ظلم صريح.

 

لماذا الرضاعة الطبيعية؟

الكلام عن فوائد الرضاعة الطبيعية مفروغ منه، يكفينا أن نتأمل في حقيقة أن الرضاعة مدخل لتداخل الأنساب، فيكون بها الابن والابنة من الرضاع! أليس هذا أمراً يستدعي التفكر؟ فالرضاعة ليست مجرد طعام، بل هي تساهم بصورة أكيدة في تكوين جسد الطفل بصورة أساسية، فلنتخيل أن تحل محلها مواد مصنعة؟ ولنضف إلى ذلك أن حليب الأم يتغير بتغير احتياجات والطفل وعمره، ويتغير طعمه بتغير أطعمة الأم، لهذا فإن الدراسات وجدت أن الأطفال الذي يرضعون طبيعياً أقل عرضة لأمراض الحساسية والجهاز المناعي. والأهم من كل هذا أن الرضاعة الطبيعية هي طريقة الطفل ليحافظ على صلته الجسدية بأمه التي كان بداخلها منذ دقائق، هذا التواصل لا يتحقق بصورة أخرى. كذلك الأمر بالنسبة لمكونات الحليب الذي يشربه ويخرج من نفس الجسد الذي كان يتغذى بواسطته طوال أشهر.

 

كيف نتحمل مشقة الرضاعة؟
أصعب وقت في الرضاعة هو أول عدة أسابيع، تلك الأسابيع الأولى مع أول طفل أو طفلين ربما تكون هي التي تجعل الكثير من الأمهات يلجأن للصناعي

ما وجدته يساعد في تخطي هذه الفترة هو أن أتعامل مع الرضاعة كأنها جزء من الحياة، ولا أحولها إلى مركز الحياة. فلا تكون الرضاعة سبباً لعدم الخروج أو عدم المشاركة في النشاطات أو حتى الدراسة والعمل. علينا أن نغير طريقة تفكيرنا في وجود طفل رضيع في حياتنا. من حسن حظي أنني في تجاربي الدراسية المختلفة تمكنت من اصطحاب بناتي وهن في سن الرضاعة إلى المحاضرات والندوات والمؤتمرات. وتلقيت الأسئلة وشاركت في النقاشات وأنا أحمل طفلتي على كتفي. أرضعتهن بكل تلقائية عندما احتجن لذلك في زاوية الغرفة أو في مكاني دون أن يلاحظ أحد ذلك.

 

أعتقد أن العقبة الأساسية هي في حواجز العيب والحياء التي فرضت على النساء في هذا الموضوع، من الرجال ومن غيرهن من النساء. يقولون بأن المرأة عليها أن تنستر وهي ترضع. طيب ما هي مستورة، تغطي نفسها وطفلها ولا ترى منها شيئاً. ليست مشكلتها أن تفكيرك محصور في وظيفة جسدها المغرية بالنسبة لك. خلق الله صدر المرأة لأغراض أخرى غير إثارة الرجل، صدّق أو لا تصدّق. الإبقاء على حياة طبيعية وعدم الانعزال الاجتماعي والتقوقع مهم جداً لتجاوز مرحلة التعود الأولى والتأقلم مع هذه المشقة.

 

أصعب الأوقات

أصعب وقت في الرضاعة هو أول عدة أسابيع، تلك الأسابيع الأولى مع أول طفل أو طفلين ربما تكون هي التي تجعل الكثير من الأمهات يلجأن للصناعي. إما بسبب عدم التمكن من الطريقة الصحيحة أو لقلة الحليب. والحل في الحالتين هو استشارة أخصائيي الرضاعة. مشاهدة الفيديوهات وقراءة المقالات المتوفرة بكثرة على الإنترنت والاختلاط بالأمهات المرضعات الأخريات للتعرف على الكيفية التي يقمن بها. غالباً يتم تجاوز هذه المرحلة الصعبة والمؤلمة في أول أسبوعين، ثم يبدأ الحليب بالانتظام والألم بالاختفاء تدريجياً.

 

هل ننظم الرضاعة؟

بالنسبة لي فأنا لا أؤمن بهذا. الطفل الصغير يرضع لعدة أسباب ليس فقط من أجل الجوع. لهذا فمن الضروري أن نترك له حرية اختيار متى يرضع والمدة المطلوبة. أتحدث هنا عن الشهور الستة الأولى بصورة أساسية. من تجربتي الطفل عندما يعرف بأن حضن الأم متوفر له وقت ما يشاء وبالكيفية التي يشاء فإنه يصبح أقل تعلقاً شيئاً فشيئاً ويكتفي بما يحتاجه من رضاعة إلا في أوقات استثنائية كالشعور بالخوف أو فترات النمو أو الألم.

 

الحمد لله أرضعت بناتي كلهن دون استخدام تتينة أو بيبرونة أو أي شيء غير الرضاعة الطبيعية. الطفلة الأولى – ولاحظت أنه الحال غالباً في الأطفال الأوائل – يكون لديهم طلب عالي للرضاعة والارتباط النفسي بالأم. أذكر أنني كنت أحياناً أبكي لعدم قدرتي على فعل أي شيء خلال اليوم لأن ابنتي كانت تواصل الرضاعة بفواصل قصيرة جداً. ولكنها فترة وتمر، وليست سبباً لاستخدام أي من وسائل إلهاء أخرى للطفل. وجدت من المفيد أن حمل الطفل وحضنه فترات أطول بعد أن يشبع يساعد على تقليل الرضاعة النفسية، لأنه يعرف بأنه سيبقى مع الأم حتى بعد انتهاء الأكل.

 

علينا أن نكون متواجدين وأن نقدم للطفل ما يحتاجه من دعم نفسي وعاطفي، ترك الطفل ليبكي أو ليفقد الأمل أمر مؤذٍ جداً
علينا أن نكون متواجدين وأن نقدم للطفل ما يحتاجه من دعم نفسي وعاطفي، ترك الطفل ليبكي أو ليفقد الأمل أمر مؤذٍ جداً
 

علينا أن ندرك أن الأطفال مختلفون في عادات النوم وفي عادات الأكل، بعض الأطفال ينامون ساعات متتالية منذ الولادة وآخرون لا. ولكن غالباً ما سيزيد تعلق الأطفال بأمهم كلما زاد وعيهم وقدرتهم على التفريق بينها وبين أفراد آخرين. لهذا قدر يزداد تعلقهم بها أو يستيقظوا عدد مرات أكثر في الليل بعد أن ظننا أنهم بدؤوا ينامون لفترات أطول.

 

مرة أخرى نحن علينا أن نكون متواجدين وأن نقدم للطفل ما يحتاجه من دعم نفسي وعاطفي، ترك الطفل ليبكي أو ليفقد الأمل أمر مؤذٍ جداً. في الليل خصوصاً تخيلي نفسك كائن في عالم لا يفهمه ولا يملك القدرة الجسدية ولا العقلية للتعامل معه والكيان الذي تبحثين عنه للأمان يتخلى عنك؟ الأمر ليس سهلاً ولا بسيطاً، ولكنه ككل الأمور الجيدة يحتاج لمجهود وجاهزية عقلية ونفسية وإصرار وإدراك لحقيقة أنه حق الطفل وليس فضلاً منا عليه. وأي ممارسة تتحول إلى عادة وتصبح جزءاً من الحياة لا نجد فيها الكثير من الصعوبة إذا ما داومنا عليها وتقبلنا حقيقتها.

 

بالنسبة للسيدات العاملات واللواتي ليس لديهن خيار إلا أن يبتعدن عن أطفالهن الرضع، فإنه من الضروري اقتناء مضخة أو آلة شفط وتفريغ الحليب للطفل حتى يستمر في الرضاعة الطبيعية. ليس بالضرورة أن يرضع صناعياً لأنك تعملين. فترة الرضاعة من وجهة نظري لا يجب أن تقل عن سنة و9 أشهر "حمله وفصاله ثلاثون شهرا" والمثالي هو أن تستمر لعامين "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ". عن نفسي أرضعت طفلتي الأولى سنة وتسعة أشهر لحملي بأختها، وفطمت الثانية بعد نفس المدة لأسباب صحية.

 

بطبيعة الحال بعض النساء يتعسر عليهن الرضاع الطبيعي، وهذا قدر الله لهن وليس سبباً للتعاسة والكآبة، من وجهة نظري أرى أننا لا نستفيد من فكرة الإرضاع بين الأمهات، كأن ترضع واحدة أبناء أختها أو صديقتها أو حتى يكون حليبها بجانب الحليب الصناعي إن تعذر. ففيه من الخير الكثير. جهل الرجل بحقيقة العملية يزيدها صعوبة لذلك من الجيد أن يستمع أو يقرأ عنه قبل المرور به مع زوجته. للأسف أغلب الرجال يستخفون بالألم الجسدي والنفسي للمرأة إلا من رحم ربي ويتعاملون مع الولادة والرضاعة والفطام على أنها تحصيل حاصل. أختم بأن أؤكد أن هذه تجربتي الخاصة وآرائي الشخصية، وليست حقائق وقواعد تعمم. لكن شاركتها لعل أحداً يستفيد أو يشعر بشيء من المساواة. والله أعلم. أكتب في مرة أخرى إن شاء الله عن تجربتي الفطام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.