شعار قسم مدونات

هكذا عثرت على أمّي!

مدونات - أم بكاء حزينة فلسطينية امرأة تبكي

ظننتُ طويلاً أن قضايا اكتشاف المّعجزات لا تتعدّى مواضيع ما هو خارج درب التّبانة، بطابعَها العلمّي خاصةِ مع التّطورات التّكنولوجية التّي تظهرُ علينا كلّ يومٍ بجديدٍ يسلبُ العقول والقلوب، كما لم يكُن يزورنُي ولو طيفاً أنّنا رغمَ كراماتِ الأمّ نظلّ نعيشُ إعجازاً حقيقياً كلّ مرّة، يدفعُنا لنؤمنَ حقاّ انّه لا مخلوق بشري متفرّد يوازي ويفوقُ القوّة الفولاذية التّي تملكُها الأمّهات. معجزاتٌ تدفعنا لنغوص غمار كلّ المّواقفِ ونسبحَ دون مجاديف بطمأنينة تامّة وقدْ نمكثُ فيها سنيناً دون أن ننتهي، يا صاح في روضِ الحديث عن أمهاتِنا ستتبعثر الحروف وتتجمّد المعاني، تظلّ الأم كلماتنا الخالدة التي نتغنّى بها كلّ يومٍ.
  
قدتُ قبل اثنين وعشرين سنة سفينة الحياة، أعتمدُ على خرائط قلبي التّي رسمتِها أمّي مرّة وعلى تضاريس عقلي مرّات أخرى، أمام الأمواج المتلامطة رحتُ بإصرار أبحثُ في أغوارِ ما قابلني في الحيّاة ماعدا شيء واحدٌ غفلتُ عنه سهواً، أمّي الجّوهرة النّادرة التّي من فرطِ حبّي لها وتعلّقي بها لم تسرقني لأتأملّها طويلاً، رغم أننّي كنتُ أتوكأّ عليها وأهشُّ بحبّها وليَ في صحبتِها مآربٌ أخرى وأقصى ما يمكنُ تصّوره أن تكونَ جسري للجنّة.
  
وهكذا هي الحياةْ حينما تفرشُ لنا نعمَها نغفلُ عن الحمدِ والشّكر والتّأمل فيها، الّا أن يوماً سرمديّا قبلَ شهرٍ واحد عرّفني بأمي، كانَ اليّوم مأساوياً، ارتميتُ بين أحضانها دونما هوادة بعدَ سفرٍ شاقٍ وطويلٍ كادت فيه أشلائي تتناثر وتشّوهت فيه ملامحي، بكيتُ عندها وأنا أفتّش عن أي شيء يبقيني بين جنباتِها، شيءٌ يعيدني لشعورُ أولّ لحظةٍ حين أنجبتني، تمنيتُ يومها لو كنتُ بقلبِ طفلةٍ لا تشعر كي لا اتعذّب مرتين، رؤيتها والوجعُ يحرّك مفاصلها كانت تؤذيني والموتُ كان أشدّ وطئة ورحيل ياسين بالذّات..
  

خاضت أمّي معركة صحوتها الفكرية والدّعوية بقراءة كتب الغزاليّ والبنّا خلسة وجهرتْ بها دونَ خوفٍ حينما لبست عباءة الحبّ في سقفٍ زوجية كان قوامُها عهدٌ للدعوة والمجتمع

كان مساء خانقاً أحسست بها وأنا التّي لم أجرّب كيف يتولّع قلبُ الأم، وتساءلت كيفَ خاضت أمّي ستَ مخاضاتٍ ولادة دونَ أن تتعبْ وتخوضُ ألمَ الموت اليّوم، بدا لي حقيقةً أنّ رحيلَ أخي ذلك المساء لا يضاهي ألمُه عشرَ ولاداتٍ حينها، ورحتُ اعيدُ شريط الذّكرى اقلبّ صفحاتنا معاُ، عشرين سنةٍ واثنتين عرفتُها الملجأ والوطنِ، شهدتُ معها سحر الصّداقة، ولوعة الحبّ وذقتُ بقربي منها حنان وطيبة الأخت، كانَ يوماُ جميلا كبرّ فجرَه وأعلنها للحياةِ أمّا، وسامٌ لبسته عن جدارة تبزغُ به عاما بعد عامْ كقطعةُ من الجّنة، لكننّا بكلّ ما أوتينا من حبّ وحنانْ لا يُمكننا أن نمنحَ حقّ الحبلِ السّري الذّي خُلقَ لأجلنا وقُطع لأجلنا أيضاً، وصار اللّحمةَ التي تبقينا على قيد الأمل !
  
لو فتحتُ الدفاتر أقرأ حكايات كتبتها بطلتي، أفتّش عن أمّي ما انتهيتْ لكننّي رأيتُها منذ صغري والحُزن يقتلع أشجانها، كيفَ تعبت وجاهدت لتحافظ على مكانٍ لها في الحافلة من مدينةٍ لمدينة كي تكونَ في صفوفِ المتعلّمين، قضت ما يفوق الأربع سنوات بعيدَة عن بيتِها تكافحُ علّها تحقّق حلماً راودها كلّ ليلة، ورغمَ نجاحها المّمتاز في شهادة البّكالوريا إلا أنّها ضحّت بمقعدِها الجّامعيّ لتنتمي لصفوف المُعلمّين صغيرة..

وقبلَ أن أولدَ بثمانِ سنوات بدأت أمّي مسيرتها العمليّة كمعلمّة تبثُ في حناياً التّلاميذِ طمأنينةً المَعرفة، وحلاوة العلم وترسّخ في أذهانِهم الطّموح قبل الدّروس، وترسم في مخيلتّهم الوصول قبل الامتحان، تسّهل لهم كلّ صعبٍ بحبّها لمهنتِها وتنقشُ من ذهبٍ في شخصيتِهم معنى الخلقُ والفضيلة من خلال ما كانتِ تمارسُه من عطاء لا متناهي في قسمِها وترحيبٍ لطيفٍ في بيتها، كثير من قليلٍ يدركُه كلّ من تعلّم وتربّى على يديها.

   
قبل هذا خاضت أمّي معركة صحوتها الفكرية والدّعوية بقراءة كتب الغزاليّ والبنّا وغيره من المجدّدين خلسة وجهرتْ بها دونَ خوفٍ حينما لبست عباءة الحبّ مع أبي في سقفٍ زوجية كان قوامُها عهدٌ للدعوة والمجتمع وعهدٌ لأسرةٍ خيّرية. فما عرفتُها إلا مجلجلة بالحقّ، تؤذن في الناسِ بأنّهم أمّة خير، وما تركتْ منبراُ إلاّ اعتلته مؤمنة بما تقولُ وتدعو إليه وما أثنتها المشاغلُ ولا الواجباتُ الأسرية ولا حتّى تربيّة الأبناء لتدخل معتركَ المجتمِع لتخاطب نخبتُهم وتستقطب بسيطهم وتتغلغل في منظماته وجمعياته، ولم تقعدها عن برّ والديها وطاعة زوجِها وخدمة أهله، ولا عن صناعةِ البيوت وحلّ المشاكل بالحُسنى وقوّتها في ذلك "الله في عون المسلم ما دام في عونِ أخيه" ولم تمكث طويلاً إلا وولجت عالم السّياسة على مضض بإيمان خالصٍ انّه ولو بأضعف الإيمان يوجبُ المؤمنُ على التغييّر.

 

أنا بالموتِ وكهذاً عثرتُ على أمّي فكيف ستعثرونَ مجددّا وتتعرّفن على أمهاتكم؟
أنا بالموتِ وكهذاً عثرتُ على أمّي فكيف ستعثرونَ مجددّا وتتعرّفن على أمهاتكم؟
  

بعيداً عن هذا العالمِ الخارجي الذّي كانتْ تمنحُ فيه أمّي نصف عمرِها، كانتْ تتولّعُ ألمّا وجهادا كيّ تربيّنا أحسنَ تربية، ولّأنها حبيبةُ ربّها رزقتْ بابتلاءٍ سماويّ يختبرُها فيهِ ربّنا عزّ وجل إذا ما كانت رضّية شاكرةٍ، يومَ تفتقّت وجعاً بأخي حينماً أقعدتُه الحمّى معاق الحركةِ والحديثِ فخُطفتْ الحياة من قلبِها سريعاُ وعاشتْ للهمّ حاملَة بقلبٍ خاشعٍ وعينانِ ما عرفتُها إلا متهاطلة الدّمع الحارق لوجنتيها . فجأة أيقظتنِي وهي تربتُ على كتفي مطبطة على قلبي بكلّ تقاسيم وجهها المُتعبة وقلبّها المكلوم، رحتُ أحملقُ طويلاً كيفَ تجلسُ هذه الصخرةُ بين الجموعِ صامدة، متحدّثة لا تملّ حديثاً تسألُ عن هذا وذاك بيدَ أنّهم جاؤوا معزّين ويفترضُ أن تكون المسؤول ولا السائل، بين أربع جدران كانتْ الوفود تأتي باحثة عنها، كنتُ موقنة أنّهم متثاقلي الخطى وقلوبهم ترتجفُ كيفَ يواسونَها في فلذة كبدها الذّي شغف قلبها حباً وأماناً، لكنَهم يصدمون في أول رؤيتِها..
  
لا أتعجّب أنا ذاتي ما عرفتُ أمّي إطلاقا، الكسرُ كان يموجُ في عينيها لكنّها كانت تجبرُ كلّ قادمٍ، لا تكلّ شفاها من الحمد الكثير لله وقدَ قبضت الملائكة ثمرة فؤادها ولكن فؤادها لم يكنْ فارغاً والله يربطُ عليه وبقوّة إيمانها يُسكنُه.. وسلامٌ على قلبِ أمي الذّي أخجلني يومَها، حتّى عرفتُ مجددّا أنها كنواة تنشطرُ وتنشطرُ لتحافظَ على صلابة أمومتها، كما أثبتت لي أنّها الرّوح التّي تُجيد صناعة الحياة من آلامها وصبرها، وأنا كبرتُ ولم أفعلْ حتى الآن شيءُ يظلّ خالداً في ذهنِ أمّي ولربّما ما سأكون قادرة على فعله مستقبلاً لكن لا أضاهي ما قد تفعلُه لي هذه المعجزة.
 
كانَ درساً متأخراً علمّني أننّا لا نعرفُ الحياة ولم نعرفهَا إلا بأمهاتِنا، أصلاً أتخيّل لولاَ شرائعُ السّماء والعقائد كانت أمّهاتُنا قرآننَا وديننَا الذّي يهدينا للّه للفطرة للصّدق للحياة السعيدة، برقتّهن وصلابتهّن التّي لا تموتُ وهنّ طوقُ النجاة. أنا بالموتِ وكهذاً عثرتُ على أمّي فكيف ستعثرونَ مجددّا وتتعرّفن على أمهاتكم؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.