شعار قسم مدونات

الفقر والخمر وجهان لِسُكْرٍ واحد

مدونات - الفقر في مصر
"ﻣﻦ ﻧﺰﻝ ﺑﺄﺭﺽ ﻗﺪ ﺗﻔﺸﻰ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺰﻧﺎ ﻓﺤﺪﺙ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﺣﺮﻣﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎ ﻓﻘﺪ ﺧﺎﻥ الله ورسول الله" تلك مقولة للعز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الأمراء. علي قدر ما في هذه المقولة من وعي وفهم لمتطلبات المرحلة علي قدر ما فيها من افتضاح سوءات كثير من الأئمة والدعاة وكشف عورهم الفقهي والعقدي، فمن واجب الوقت أن تُحدث الناس فيما يخصهم فيما يداعب أنفسهم ويلامسها فلا تتكلم في الزهد والتقشف، وحال الناس قد خرب والمعيشة تدمرت، لا تأتي بالخطب الطوال وتقيم معارك في وجوب اللحية والنقاب، والنمص وتقصير الثياب "وكل ذلك من الدين"، والناس لا يجدون ما يشبعون به جوعتهم، و كثير هم الأصدقاء الذين صمتوا وطالبونا بالصمت والسكون مخافة قوة الطواغيت الذين إذا بطشوا بطشوا جبارين "وكلامهم صحيح"، ولكن ما ألبس أن أصمت حتى تشرع أناملي تكتب عن ما يجول في حلقات المجتمع ودوائره.

       
هل جربت يوما أن تشرب خمرا او أن تذوق السُكر؟ هل لامست شعور أن تهيم في الأرض غير مبالي بأي وجهه تذهب؟ إذا كنت في مصر فحتما ستجرب، فالفقر بدأ ينهش في جسد المواطن المصري ويبعث فيه الخمول والتراخي بلا حيلة يفعلها، فالفقر مثل الخمر كلاهما مُسكر وقد يكون من ضمن الاختلاف أن الأول يُفرض عليك كَرهاً والأخير تأتيه طوعاً، والفقر يجعل الناس متخبطين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أصبح المصريون شاغلهم الأول اللهث وراء لقمة العيش وفقط، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد كثيراً دعاءً وأمرنا أن نذكره عند كل صباح كان يقول: "اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا اله إلا أنت، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا اله إلا أنت".
   

التشابه واضح بين الوضع أيام الفاطميين والحالي، ليس فقط في الغلاء والمجاعة ولكن التشابه في التعامل السلبي للمصريين في الزمنين، حيث نسوا أن العامل الرئيسي هم الحكام والوزراء

يقول الشيخ مراد بخريصه "فك الله أسره": استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفر والفقر، وقرن بين الكفر والفقر لأن الفقر إذا انتشر؛ انتشر الشر، فإن الفقير إذا عجز عن الشراء، أو لم يقوى في الديون على الأداء؛ فإنه سيلجأ إلى الجرائم وإلى الحرام، وعندها تنشأ الأنانية، وتظهر المشاكل الاجتماعية، وتزداد الحالات النفسية وكثير من المشاكل التي لا حصر لها".

 

 فمنذ أن أعلن جبار مصر زيادة الأسعار وأصبحت مصر غارقة في بِرك من الغلاء والفقر والوباء ورأينا حوادث القتل التي بدأت تطرأ علينا نتيجة لذلك، وتصدر كثير من الدعاة لتبرير الوضع والتنظير له بأن السبب ف ذلك ذنوب الناس وأخطائهم واللوم على الشعب ولم يضعوا ولو لوم واحد علي الحاكم المتجبر لم يقولوا لهم أن الذنب في عدم أخذهم على يدي الطاغوت، لم يعلموهم أن عدم الوقوف في وجه السلطان الجائر مسبب رئيسي للغلاء، لم يذكروهم بتفريطهم في الدماء، لم يأمروهم في معارضة هذا الوضع وتناسوا أن كل هذه الأمور تجلب الوباء والبلاء وأينما نكن نحن لا نقاوم الظلم ولا نساعد المظلوم يُولى علينا من يزيدنا ظلما ويسوقنا أشد العذاب، إذا غيرنا قَناعتنا المتمثلة في الصبر والتسامح على الجبابرة حينها يُغير الله من على رؤوسنا، وثورة الخامس والعشرين من يناير خير شاهد، حينما نزل الناس وثاروا انفكت وانفرجت عقدة كنا نظن أن لا تُفرج .

   
وقد ذكر أبي الفرج الأصفهانى في مقاتل الطييبين ص226: "أن السعر غلا مرة بالبصرة، في عهد أبي جعفر المنصور فخرج الناس إلى المقابر يدعون، والوعاظ يتكلمون، فوثب بشير الرحال فقال: شاهت الوجوه، شاهت الوجوه، شاهت الوجوه، قالها ثلاثا، ألا أنه قد عُصي الله في كل شيء، وانتهكت الحرم، وسفكت الدماء، واستؤثر بالفئ، فلم يجتمع منكم اثنان فيقولان: هل نغير هذا وهلم بنا ندع الله أن يكشف هذا! حتي إذا غلت أسعاركم في الدينار جئتم على الصعب والذلول من كل فج عميق تصيحون إلى الله أن يرخص أسعاركم، لا أرخص الله أسعاركم، وفعل بكم وفعل".

  undefined

  

والحقيقة التي لا بد منها والتي تتبين للناظر في تاريخ هذه الأمه المصرية هو تكرار لردود أفعال المصريين مع كل شدة وغلاء حتي وإن تغير الزمان، ففي القرن الخامس الهجري كان يحكم مصر الفاطميين وحدثت مجاعة شديدة في أواخر عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله استمرت لمدة سبع سنوات، عرفت "بالشدة المستنصرية"، يروي المؤرخون حوادث قاسية عجيبة فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين حتي أكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها لدرجة أن الخليفة نفسه قد جاع حتى أنه باع ما على مقابر أبائه من رخام وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه وخرجت النساء جياع صوب بغداد، وذكر ابن إلياس كلاماً لا يصدقه منطق أو عقل أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصُنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها، وما خَفي كان أعظم .
    

ولعلنا نلحظ التشابه الواضح بين الوضع أيام الفاطميين والوضع الحالي، ليس فقط في الغلاء والمجاعة ولكن التشابه في التعامل السلبي للمصريين في الزمنين، حيث نسوا أن العامل الرئيسي في الغلاء هم الحكام والوزراء، وتكالبوا على بعضهم البعض وأفسدوا ذات بينهم وساقوا الحجج والأعذار على أنفسهم .ولعل هناك بصيص من الضوء قد بدأ يتكون في وسط الدوائر حالكة الظلام، حيث تفاعل أكثر من ربع مليون مصري مع هاشتاج تصدر مواقع السوشيال ميديا مؤخرا بعنوان ارحل_ياسيسي.
    

ويجب علي الجميع أن يُثَمِن أي عمل فيه مجابهه للوضع القاتم في مصر ويجب أن نتفاعل مع أي بوادر أمل ولو بسيطة لعل الرب يرفع عنا شيئا من بلاوينا ونكباتنا القابعة فينا، ولعلها معذرة إلي الله حين يأتي اللقاء، وأخيرا يجب أن نعلم أن الصراع بين الحق والباطل أزلي وباقي ويجب علينا أن ننكره أيما إنكار حتي لا نُكتب عند الله من الشياطين الخُرس الساكتين عن الحق، ولشيخنا عبدالعزيز الطريفي "فك الله أسره" مقولة رائعة يقول فيها: "كثير من الكُتاب يَنتقي نصوص الرفق في الإسلام ليحسن صورته بزعمه ويتوارى من تقرير الصراع بين الحق والباطل فينتج جيلا ذليلا تحت ستار التسامح".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.