شعار قسم مدونات

مَلَكَة الحفظ.. ما بين السلف والخلف

BLOGS ملكة الحفظ قديما
قبل بضعة أيام ناقشني أحدُ منكري السنّة النبوية ممن يُسمون "بالقرآنيين"، وقد طرح عليَّ عدة أسئلة كلها تتعلق بطريقة نقل السنة النبوية إلينا، وهذا كان سبب تشكيكه في السنة النبوية؛ فهو يرى أن الطريقة التي اتبعها سلفنا الصالح في نقل السنة النبوية، هي طريقة تحتمل وقوع الكثير من المغالطات.

ثم بعد ذلك دار كلامنا حول الإمام البخاري وكتابه "الجامع الصحيح" أو ما يُعرف بين الناس باسم "صحيح البخاري"، وقد طرح عليَّ سؤالًا، فقال: رُوي عن البخاري أنه حَفِظَ سبعين ألف حديث حينما كان صبيًا، ثم رُوي عنه أيضًا أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، ثم رُوي عنه أنه بعدما انتهى من كتابه "الجامع الصحيح" قال: أخرجتُ هذا الكتاب من نحو ستمائة ألف حديث، فهل لبشرٍ أن يحفظ مثل هذا الكم الهائل من الأحاديث دون أن يخطأ؟! وهذا السؤال هو لُب موضوعنا وسأجاوب عليه إن شاء الله، ولكن في البدايةً نقول أن إجابة السؤال لها وجهان:

الأول: أنه من المعروف عند علماء الحديث أن من طرق معرفة خطأ الراوي؛ هي مقارنة مروياته بمرويات غيره من الرواة الثقات فإن وجدوا اختلافًا؛ حكموا على الحديث المروي بالضعف والنكارة، ولعلماء الحديث مصنفات كثير تكلموا فيها بإسهاب عن هذا الموضوع، وهذا الوجه ليس مهم بالنسبة لموضوع بحثنا مقارنة بالوجه الثاني.

العرب كانت أمة أمية لا تجيد الكتابة فكان الصدر محل الحفظ ومن الطبيعي بعد انتشر العلم وتطور أساليب الكتابة توجه الكثير من الناس إلى الاعتماد على كتابة كل ما يسمعونه

الثاني: فإن هذا السؤال من جهة الواقع فهو طبيعي جدًا، فقد كان هذا دأب العرب كافة حتى بعد مجيء الإسلام بقرون، فكلنا يعرف أن العرب كانت أمة أمية لا تجيد الكتابة وإنما كان كلامهم حفظًا في الصدور، وكان حفظ الأشعار والأنساب هو الطاغي على الفرد العربي قبل الإسلام، حتى جاء الإسلام فحل القرآن والسنة النبوية محل الأشعار والأنساب، فلم يكن البخاري هو وحده من يحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث النبوية وآثار الصحابة وأقوال التابعين، فقد روي عن الإمام مسلم بن الحجاج -صاحب الصحيح- أنه قال: صنفتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب "السنن".

وكان الإمام أحمد يقول: صح من الحديث سبعمائة ألف وهذا الفتى -يعني أبا زرعة الرازي- قد حفظ سبعمائة. وقال الإمام الحاكم: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث. ومن كلام أئمة السلف يثبُتُ لدينا البينة على صدق قول البخاري وأن سعة حفظه قد أدركت هذا العدد من الأحاديث والأخبار. وأما في كلام المعاصرين، فقد نُشرت دراسة أمريكية معاصرة تؤيد كلامنا على أن سعة العقل من الممكن أن تحتفظ بكميات هائلة من المعلومات واسترجاعها بسهولة، ونَشرت هذه الدراسة صحيفة "إي لايف" نقلًا عن بعض الباحثين المختصين وقد أوضحوا أن الجانب المسؤول عن الذاكرة في العقل البشري أكبر عشر مرات مما كان يظنه العلماء، استنادًا إلى أبحاث سابقة. ويرون أيضًا أن العقل البشري يمكنه تخزين ما يفوق مليون غيغابايت من البيانات، وهو ما يقدّر بنحو 4.7 مليارات كتاب، أو 670 مليون صفحة ويب.

ولكن يبقى السؤال لماذا لا يوجد في عصرنا الحاضر من يستطيع حفظ هذه الأعداد الكبيرة من الأحاديث والأخبار؟ فنقول: الأمر في عصرنا الحاضر أصبح صعبة وقد يكون مستحيلًا لثلاثة عوامل أساسية وهي:

1- قد ذكرنا أن العرب كانت أمة أمية لا تجيد الكتابة فكان الصدر محل الحفظ ومن الطبيعي بعد انتشر العلم وتطور أساليب الكتابة توجه الكثير من الناس إلى الاعتماد على كتابة كل ما يسمعونه أو يحفظونه على الأوراق، وقد تسبب هذا في إخماد دور العقل في حفظ المعلومات تدريجيًا حتى أصبح المحفوظ قليلًا والمكتوب كثيرًا.

 

على الرغم من تقدم الخلف على السلف في العلوم، فقد استطاع السلف مع ضعف السبل وقلة الإمكانيات أن يتفوقوا على الخلف في العديد من الأشياء منها
على الرغم من تقدم الخلف على السلف في العلوم، فقد استطاع السلف مع ضعف السبل وقلة الإمكانيات أن يتفوقوا على الخلف في العديد من الأشياء منها "ملكة الحفظ"
 

2- لا شك أن التكنولوجيا الحديثة أثرت تأثيرًا واسعة على العقول في جانب الحفظ، فقد أصبح الوصول إلى المعلومات أكثر سهولة وأسرع من ذي قبل، وهذا أيضًا ساعد على إخماد دور العقل في حفظ المعلومات، فأصبح لسان حال الإنسان المعاصر؛ لِمَ أحفظ وعندي الإنترنت يُخرج إليّ المعلومات في بضع ثوانٍ!

 

3- كثرة تعرض الإنسان لكميات كبيرة من المعلومات المختلفة في وقتٍ واحد، وهذا مما يسبب تشتت للعقل البشري، فمن المعلوم أن حفظ الكثير من المعلومات مترابطة الموضوع أيسر على العقل من حفظ القليل من المعلومات المختلفة، فكيف بالكثير!

وعلى هذه النقطة نضرب مثالًا، وهو الفيسبوك؛ هذه المنصة الكبرى والتي يستخدمها أكثر من ملياري شخص حول العالم، أصبح مستخدم الفيسبوك من أكثر المتعرضين للتشتت العقلي، فكل من استخدم الفيسبوك يعلم أنك بمجرد تصفحك للموقع تجدُ أمامك العديد من الموضوعات التي تحوي الكثير من المعلومات أبرزها في (الكرة والتكنولوجيا والطبخ وعلم النفس والاجتماع والدين وغيره)، فكلما شاهد المستخدم معلومة في موضوع ما، كان مآلها إلى الذاكرة قصيرة المدى فتحتفظ هذه الذاكرة بالمعلومات لفترات ما بين 30 ثانية وحتى دقائق معدودة ثم تذهب عن العقل، ثم يتلقى معلومة أخرى في موضوع أخر مختلف فتكون كسابقتها من المعلومات، ومع كل هذه الأعداد الضخمة من المعلومات المختلفة فمن المحال أن يستطيع العقل حفظها لفترة طويلة.

وفي النهاية فلو نظرنا إلى حال السلف وقارنه بحال الخلف سنعلم جيدًا الفرق الكبير بينهم، وعلى الرغم من تقدم الخلف على السلف في العلوم، فقد استطاع السلف مع ضعف السبل وقلة الإمكانيات أن يتفوقوا على الخلف في العديد من الأشياء منها "ملكة الحفظ" فهذا مما لا يستطيع عاقل أن ينكره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.