شعار قسم مدونات

كأس العالم.. لا تنفصل الرياضة عن السياسة

blogs تونس في كأس العالم

أستغرب جدا من أولئك الذين ينادون بفصل الرياضة عن السياسة. كيف لهم أن يذهبوا ذلك المذهب، فالسياسة هي البحث عن طريقة للعيش والحياة، والرياضة هي بحث عن الترفيه والمتعة. وكيف يتأتى لنا أن نلهو ونتمتع بعيدا عن حياتنا وقضاياها وطرائقها. لا يتأتى الترفيه ولا تتأتى المتعة ابتداء إلا بحياة مستقرة، تسير في طريقها المرسوم دون منغصات قاهرة ومنعطفات كاسرة. ولو كان الترفيه مع حياة قاسية بئيسة، فهو أشبه حينها بالخمر، عندما تُذهب عقول الناس، لتنسى للحظات ما هم فيه. يشبه الترفيه حينها الخمر، ويشبه حكمه حكمها، فلا هي تحلّ، ولا هو كذلك.

ليس من المنطقي ولا المعقول أن تهتف الشعوب لفرق بلادها في كرة القدم وقد بُحّت أصواتها من الصراخ من شدة وطأة أنظمة الحكم عليها. ولا من المنطقي والمعقول أن تغني وترقص وتزغرد فرحا بفوز فرقها في مباراة، وهي قبل المباراة وبعدها تبكي على حالها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي باتت تعيشه. ولا من المنطقي والمعقول أن تغفل عن أن فوز فريقها سيُحسب لتلك الأنظمة القمعية المتسلطة الذي تعيش في ظلها، وسيساعد في غسل وجوهها الملطخة بالاستبداد والعمالة، ولو إلى حين. ولا من المنطقي والمعقول أن تنسى الضرب الغشيم من الأنظمة فيها لمجرد ضربة رائعة للكرة من قدم لاعب. ولا من المنطقي والمعقول أن تنشغل بمراوغة اللاعبين لبعضهم عن مراوغة الأنظمة لها في إعطائها حقوقها وإطلاق حريتها.

أذهب مع الرفاق إلى المقهى لمشاهدة مباريات كأس العالم، فأتمنى الهزيمة لبلداننا التي غرقت في الديكتاتورية والفساد والعمالة حتى شحمتي أذنيها

من حق المخلصين لأوطانهم في بلداننا أن يتمنوا هزيمة فرقها في المسابقات الدولية، وهؤلاء في الحقيقة هم الأكثر إخلاصا لأوطانهم من أولئك الذين يتمنون انتصار فرقها، وهم الأكثر إدراكا للأبعاد والأكثر فهما لها منهم. وإن الأنظمة الديكتاتورية المتسلطة الفاسدة لترى في مثل هذه المسابقات الرياضية وغيرها من وسائل الترفيه أكبر معين لها على تغييب وعي الشعوب وإدراكها، وتخديرها وإلهائها، ولو إلى حين.

وانظروا إلى هذه الأنظمة التي سارعت إلى إنشاء هيئات للترفيه، بل ووزارات كذلك، لتصرف المليارات من أجلها، في الوقت الذي يأكل فيه البعض فيها من صناديق القمامة. لا يغيّب العقل عن قضاياه الحياتية الكبيرة مثل الترفيه، والترفيه عموما ليس مذموما ولا محرّما، بل هو مشروع ومسنون، إلا أن يكون مؤامرة من أنظمة فاسدة متسلطة لإلهاء الشعوب.

 

قديما كان يقول لنا بعض الدعاة ونحن شباب: إن الأعداء في الغرب قد اخترعوا السينما والكرة وغيرها من أجل أن يغيّبوا شباب المسلمين عن دينهم وواقعهم وتاريخهم. وهو كلام مبالغ فيه قطعا، فالغرب اخترع وسائل الترفيه هذه من أجله هو، فالترفيه عند الغرب من أهم أسس حياته، وذلك منذ تاريخه الأول في عصوره الأولى. ولا يمنع ذلك من محاولته نشر هذه الوسائل بعد ذلك في بلاد المسلمين للإلهاء. بل إن الأنظمة العميلة له في بلاد المسلمين لتساعده على ذلك.

ذكر الدكتور جابر قميحه رحمه الله، أنه رأى بعد هزيمة 1967م دور السينما وقد علاها ملصق دعائي واحد لفيلم أجنبي بعنوان (انفجار)، وظن الدكتور ساعتها أنه فيلم حربي، إلا أنه علم بعد ذلك بسنوات من بعض رجال الدولة في حينها أنه فيلم إباحي، جاءت به أجهزة المخابرات إلى دور السينما بأمر خاص من الرئيس عبد الناصر، من أجل إلهاء الناس ونسيانهم للّحظة التاريخية المرة التي يعيشونها.

تقدم الفرق العربية أسوأ عروض رياضية، بل إنها أول الفرق مغادرة للمسابقة. وهذا هو الطبيعي والمنتظر، فلا يتخيل أحد أن تُخرج لنا أنظمة فاشلة في كل شيء نجاحا في أي شيء
تقدم الفرق العربية أسوأ عروض رياضية، بل إنها أول الفرق مغادرة للمسابقة. وهذا هو الطبيعي والمنتظر، فلا يتخيل أحد أن تُخرج لنا أنظمة فاشلة في كل شيء نجاحا في أي شيء
 

أذهب مع الرفاق إلى المقهى لمشاهدة مباريات كأس العالم، فأتمنى الهزيمة لبلداننا التي غرقت في الديكتاتورية والفساد والعمالة حتى شحمتي أذنيها. لم أستطع تشجيع أي منتخب عربي إلا المنتخب التونسي، لأنه المنتخب الذي يمثل البلد العربي الوحيد الذي يحاول أن يسير ناحية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. الثورة العربية في الربيع العربي بدأت من تونس، ثم فشلت في كل أرض مرت عليها إلا في تونس، فما زالت تصارع هناك لتنجح، وما زال الأمل والرجاء فيها. ذلك مع التحفظ الشديد من التوجه الجديد للحركة الإسلامية هناك ممثلة في حزب حركة النهضة برئاسة الشيخ راشد الغنوشي.

ولا نقطع حتى الآن: هل هو تغير أيديولوجي حقيقي جعلهم يتجاوزون فكرة الحزب الإسلامي وأيديولوجيته الإسلامية ليتحولوا إلى حزب ديمقراطي سياسي بعيدا عن الخلفيات الإسلامية والعقائدية، أم أنهم يلعبون لعبة الخداع والتقيّة السياسية من أجل أن يمروا بسلام من المؤامرات التي تحاك لهم كما حيكت لغيرهم من الجماعات والأحزاب الإسلامية في البلاد الأخرى.

حتى هذه اللحظة، تقدم الفرق العربية أسوأ عروض رياضية، بل إنها أول الفرق مغادرة للمسابقة. وهذا هو الطبيعي والمنتظر، فلا يتخيل أحد أن تُخرج لنا أنظمة فاشلة في كل شيء نجاحا في أي شيء. الرياضة ترفيه، والترفيه جزء من الحياة وانعكاس كبير للجدية والإنجاز في واقع الناس. ومن لا إنجاز له من السفه أن يبحث عن الترفيه. وإن الترفيه حينها سيكون كما الخمر، يغيّب العقول كما تغيّب، ولذلك فحكمه كحكمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.