شعار قسم مدونات

عندما تقوم "البروتينات" بإسقاط الحكومات!

blogs jbs

كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن حملات مقاطعة شعبية لبعض المواد والمنتوجات في المغرب، ومن بينها الحليب. يدخل الحليب ضمن مواد سوق البروتينات الحيوانية (الحليب واللحوم والدواجن وكل مشتقاتهم) يدر أرباحا ضخمة ويؤسس معادلة معقدة تبدأ في البروتينات وتنتهي في السياسة بعد أن عبرت اللحم والشحم. ويبدو أن السيد "خوسي باريستا سوبرينو" قد فهم المعادلة منذ فترة طويلة. فما الرابط بين هذا التاجر البرازيلي والمقاطعة في المغرب؟ الحقيقة هي أن هناك رابطا بين خوسي والمغرب وفلاديمير بوتين وبولاندا وإستونيا وأمريكا والبرازيل، قد يبدو هذا غريبا، لكن دعونا نفهم قصة خوسي وستبدو الأمور منطقية جدا.

سنة 1953، قام السيد خوسي باريستا سوبرينو بتأسيس شركة "جي بي اس" في مدينة أنابوليس البرازيلية، بدأ الرجل مشروعه بمتجر صغير لبيع اللحوم، وسرعان ما ضم تحت شركته مجموعة من أصحاب رؤوس المواشي ليطور رؤوس أمواله. كانت فكرته بسيطة ومربحة، اقترح على أصحاب المواشي التركيز في عملهم وتربية قطعان البقر والخرفان والخنازير وتفادي عناء التفكير في إشكاليات النقل والتسويق والتفاوض على الأثمنة، والاكتفاء فقط بتغذية حيواناتهم وإخراجها إلى باب المزرعة لتأخذها شاحنات "خوسي" الذي سيتكلف بتسويقها مقابل نسبة معينة.

 

نعم، ربما كان خوسي أول من فكر في تأسيس شركة لتوزيع اللحوم في العالم. تطورت شبكة "جي بي اس" وأصبحت تسيطر بشكل كامل في البرازيل على سوق البروتينات الحيوانية وبدأت شاحناتها تنقل اللحوم والحليب في كل أرجاء البلاد. سمحت اليد العاملة غير المكلفة وكثرة مزارع المواشي بدخول "جي بي اس" إلى السوق الأمريكية، في الوقت الذي وصل فيه حجم استهلاك اللحوم في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2012 مثلا إلى 23 مليار كيلوغراما… تصوروا حجم الأرباح إذن.

المشكلة هي أن دولا تابعة للاتحاد الأوروبي مثل بولاندا وإستونيا تعول بشكل كامل على السوق الروسية لبيع لحومها، فوجدت نفسها وسط أطنان من اللحم والشحم دون زبون جائع

توفي خوسي قبل أن يرى أوج ما ستصل إليه شركته، وترك ابنين لا يقلان عنه طموحا، بل ويتميزان بمكر نادر وحس مفعم بالمخاطرة، وهما "خوسلي" و "ويسلي". توسعت دائرة نفوذ الأخوين وأصبحت لديهما علاقات قوية بشخصيات نافذة في الدولة، تمكنا من الحصول على قرض من بنك التنمية البرازيلي مكنّهما سنة 2009 من شراء الشركة الأمريكية العملاقة "بيلكريمز برايد" بقيمة 2.8 مليار دولار، كي تنتقل "جي بي اس" البرازيلية إلى المرتبة الأولى عالميا بدون منازع، بسيطرتها على ربع التجارة العالمية في اللحوم ومشتقاتها. أصبحت "جي بي اس" وحشا اقتصاديا لا ينافسه أحد، لكنه يعول بشكل أساسي على سوقين كبيرين وهما أمريكا والبرازيل، وركزت على منطق اقتصادي واحد، اللحم مقابل الدولار، فماذا لو تدخلت السياسة في هذه المعادلة؟ 

أواخر سنة 2013، اشتعلت حرب باردة جديدة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بسبب أحداث أوكرانيا، سقط النظام الأوكراني المقرب من موسكو وجاء مكانه نظام مقرب من أوروبا الغربية وأمريكا، احتج فلاديمير بوتين على الدعم الأمريكي والأوروبي للنظام الجديد وقام باحتلال شبه جزيرة القرم بشكل مفاجئ يوم 28 فبراير 2014. غضب الأوروبيون ومعهم الأمريكيون ففرضوا عقوبات على الروس، ومن ضمن العقوبات… وقف المبادلات التجارية.

 

المشكلة هي أن دولا تابعة للاتحاد الأوروبي مثل بولاندا وإستونيا تعول بشكل كامل على السوق الروسية لبيع لحومها، فوجدت نفسها وسط أطنان من اللحم والشحم دون زبون جائع. قررت أمريكا التعاون مع حليفاتها حتى تعوضها على خسائرها ضمن لعبة شد الحبل بين الدب الروسي والنسر الأمريكي، ففتحت أسواقها أمام اللحوم الأوروبية. وفي نفس الوقت، غيرت الصين -وهي سوق لا تقل أهمية عن أمريكا- منبع لحومها، وبدأت في استيراد بروتيناتها من "نيوزلندا"، تسبب كل هذا في اختلال توازن سوق اللحوم، وبه اختلت الأثمنة وتكاليف النقل والتخزين.

لنعد إلى البرازيل.. وجدت "جي بي اس" نفسها وسط أزمة كبيرة وضغط رهيب في السوق الدولية جراء كل ما يحدث أعلاه، فحاولت وضع ثقل الأزمة على عاتق أصحاب المواشي عن طريق تخفيض أجورهم وإعادة النظر في العقود. لم يستسلم بعضهم وأسسوا ائتلافا لتنظيم احتجاجات شعبية والمطالبة بحقوقهم، سرعان ما توسعت رقعة الاحتجاجات وانتقل النقاش من إشكالية بين شركة وعقودها إلى علاقة الشركة بالشخصيات السياسية، ليبدأ الحديث عن قضايا فساد داخل الدولة.

 

بدأت الصحافة البرازيلية التحقيق في هذه العلاقة غير الشرعية بين اللحم والسياسة، وطرحت بعض الأسئلة حول القرض الذي قدمه بنك التنمية البرازيلي لـ"جي بي اس" سنة 2009 ليمكنها من شراء منافستها الأمريكية، بدأت بعض الخيوط السرية في الخروج أمام الرأي العام، ليكتشف البرازليون أن وحش اللحوم والحليب كان يستفيد من خزائن الدولة ومن جيوب المواطنين لكي يرضي جشعه. هل تتذكرون عندما قلت في وسط المقال أن الأخوين "خوسلي" و"ويسلي" هما شخصان ماكران؟ إليكم الدليل.

يتحدث أصحاب رؤوس الأموال كثيرا عن المصالح الوطنية، والحقيقة هي أنهم أكثر من يحتاج إلى وطن يأكلون خيراته وشعب يستغلون طاقاته ويفرغون جيوبه
يتحدث أصحاب رؤوس الأموال كثيرا عن المصالح الوطنية، والحقيقة هي أنهم أكثر من يحتاج إلى وطن يأكلون خيراته وشعب يستغلون طاقاته ويفرغون جيوبه
 

وسط الأزمة الخانقة والحديث عن الفساد والرشوة، قام خوسلي بتسجيل حديث سري بينه وبين الرئيس البرازيلي السابق يقول فيه الأخير "إن "ادواردو كونا" رجل طيب ويستحق الدعم"، ويقصد بذلك الدعم المالي، وادواردو ليس سوى رئيس البرلمان البرازيلي. اضطر القضاء إلى فتح تحقيقات شاملة أدت إلى سقوط رؤوس كبيرة في الدولة بتهمة الفساد والرشوة بسبب علاقاتهم بأصحاب رؤوس المواشي، وكان من بينها رأس "ادواردو كونا" الذي حكم عليه بـ 15 سنة سجنا بتهمة الفساد المالي. وقدّم "خوسلي سوبرينو" استقالته من رئاسة مجلس إدارة "جي بي اس" سنة 2017 بعد أن باع جزءا كبيرا جدا من أسهم الشركة التي أسسها أبوه سنة 1953. 

ملخص الحكاية أن خلافا في أوكرانيا دفع شخصا اسمه بوتين إلى اتخاذ قرار، فقام شخص آخر اسمه أوباما بالرد على قرار الأول، ورد الثاني على الأول أدى إلى انفجار انتفاضة في البرازيل. لقد كان "خوسلي" كثير الظهور في وسائل الإعلام البرازيلية، وكان يفاخر بالإنجاز الوطني الذي حققته شركته، وبما تستفيده البرازيل ماديا ومعنويا من العملاقة "جي بي اس" ذائعة الصيت. والحقيقة هي عكس ذلك، "جي بي اس" كانت تنهش من جسد الدولة والمواطنين لتحقيق حلم عائلة "سوبرينو" ولإرضاء غريزة الأنانية والنرجسية والطمع.

 

يتحدث أصحاب رؤوس الأموال كثيرا عن المصالح الوطنية وعما يستفيده الشعب الموظف عندهم، والحقيقة هي أنهم أكثر من يحتاج إلى وطن يأكلون خيراته وشعب يستغلون طاقاته ويفرغون جيوبه. أما علاقة الشركة بالشخصيات السياسية فهي صداقة كاذبة وحب غادر، لم يتردد "خوسلي" في تسجيل حديث خاص مع صديقه "ميشيل تيمير" الذي كان يرأس البرازيل حتى يورطه وينفذ بجلده. العلاقات التي ترتكز على الغش من أجل فائدة مشتركة لا تدوم طويلا، ومن يبيع معك اليوم قادر على بيعك غدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.