شعار قسم مدونات

زراعة فكرة في اللاوعي البشري (2)

blogs حوار خفي

في وقتٍ سابق كنَّا قد طرحنا المقالة الأولى من سلسلة: زراعة فكرة في اللاوعي البشري. ورأينا كيف يمكن لفكرةٍ بسيطة أن تتعمق عن لاوعي داخل مستودع العقل ثمَّ تنتقل إلى الوعي دون إدراك أن الاستخلاص كانَ من اللاوعي. أمَّا المقالة هذه سوف تتناول إشكاليَّاتٍ جديدة تمَّ بناؤها ترتيبًا وأفكارًا على المقالة الأولى.

لمَ لا ينجح زرع فكرةٍ ما في أوقات عديدة؟

أولاً، عدم استخلاص الأفكار القديمة بالآلية الصحيحة. فمن يبني بُنياناً جديداً يتوجب عليه أن يأخذ كامل الحِرص حِيالَ انتزاعه كافة الأساسات القديمة العالقة في بطن الأرض. بالمثل، لا تبني أساس فكرتك قبل أن تتأكَّد من أنَّ الأساسيات القديمة في أغوار النفس لن تتعارض -بشكلٍ صريحٍ- مع نظيرتك الجديدة. فعدم استيفاء شروط ما سبق يؤدي إلى سقوط وشيكٍ بك وبفكرتك.

ثانياً، عدم استخدام أسلوب التدرُّج في زرع الفكرة، وهُنا يكونُ الزارعُ على عَجَلةٍ من أمره ولا يلتفت أن ما لم يستغرق وقته الكافي في البناء فسوف يسقط علي رأسه قبل الانتهاء. وحدوث فيما وَرَدَ يؤدي إلى سقوط مرير وشر مُستطير. وكنارٍ على علمٍ، أشهر من يتبع أسلوب التدَرُّج والإغواء لَهُوَ الشيطان، كمَا وردَ في مُحكم التنزيل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" ونُتدبَّر هنا "لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" عِبَراً وعِظة. فالشيطان يستدرج العِباد ليس في خطوة ولا في اثنتين ولكن في خُطُوات على مَرّ أشواطٍ طويلة؛ حتى يصلَ لمُبتغاه. 

ثالثاً، سوء تقدير في تحديد الميول الفكرية لمُتقبِّل الفكرة. بمعنى، لا تشرع في زرع فكرة بعينها داخل عقل شخص ما، أنت لم تَدرُس أبعاد شخصيته ولا طبيعة ميوله الفكرية، ولا تُدرك متى تستقر الكَلمة في لا وعيه هُنا، ولا تستقر في لا وعيه هُناك. وهو ما يتفق مع السبب الأول بشكلٍ كبير.

بعض الأساليب الأخرى المُتبعة في زرع الأفكار

إن استمر من حولك الحديث عن أمر صحيح كان أو كاذبًا كأمرٍ بديهي؛ فإنَّك عن لا وعي سوف تبدأ وتتقبل ما قد قيل مع توالي المرَّات أو أضعف الإيمان أنَّك لن تغلبك الحميَّة كما الحال في مرّتك الأولى!

أسلوب مرآة الحبيب!
لو ترى فإنَّ المحبَّة قرينة الثقة، والثقة لا تؤتى إلاَّ لمستحقيها. لذا كانَ المُحبُّ مرآة حبيبهِ! إليها يتزين، وإليها يعطي لأفعال حبيبهِ قدسية خاصة. فيكون الأسلوب المنتهج هو أسلوب مرآة الحبيب! هذا الأسلوب خاصٌ؛ لأنَّه لن تتاح لك الفرصة في كل مرَّة أن تزرع فكرة داخل شخص يحبُّك أو يثق فيك. لذا كانَ أدق أسلوب لزرع فكرة بين حبيبين هو مرآة الحبيب! 

كمثَال على ذلك: إن كنت -أنتَ- تُصلّي فرضك في المسجد كالمعتاد، ولكنَّك تتأزَّم من أنَّ زوجتك لا تُصلّي فروضها. وكنت -أنتَ- تريدها أن تُصلّي دون إخبارها أو إجبارها. هنا سوف تُصلّي أمامها في البيت لا المسجد، فإذا حلَّ المساء وكان لديكم موعد بالخارج أخبرها قبل الخروج من المنزل: معذرةً نسيت أن أصلي العشاء! في كل الأحوال أنت لن تذكّرها بصلواتها أبدًا. مربط الفرس أنَّه كلَّما زادت المودة وروح المحبَّة بينكما كلَّما انغمست فكرة الصلاة في لا وعيها ثمَّ عاجلًا أم آجلًا سوف تصلي معك دون كلمةٍ واحدةٍ منك!

أسلوب البديهية الكاذبة
إن استمر من حولك الحديث عن أمر صحيح كان أو كاذبًا كأمرٍ بديهي؛ فإنَّك عن لا وعي سوف تبدأ وتتقبل ما قد قيل مع توالي المرَّات أو أضعف الإيمان أنَّك لن تغلبك الحميَّة كما الحال في مرّتك الأولى! من يستخدم أسلوب البديهية الكاذبة هم ذوي النفوذ في تشكيك دهماء الناس.

أولًا تاريخيًا، مثلًا استخدام اليهود أسلوب البديهية الكاذبة بأنَّهم شعب الله المختار وأنَّ أرضهم كانت فلسطين وعادوا إليها مجددًا ما المشكلة؟ 

ثانيًا سياسيًا، مثلًا تمَّ بسط الأذرع الإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية قبيل الحرب على العراق بغرض إيهام عامة الناس أنَّ العراق معقل أسلحة دمارٍ شامل! حتَّى سلَّم الناس راية وعيهم واقتنعوا بالبديهية الكاذبة، لذلك سوف نحاربهم!

ثالثًا دينيًا، مثلًا استخدام أعداء الإسلام أسلوب البديهية الكاذبة في أنَّ الله قد خلق لآدم حواء واحدة لا أربعة! ما خطبكم أيُّها المسلمون؟ 

أشياء قد تراها بديهية ولكنَّهم في الكذب يؤفكون. مستقر الفكرة هنا يلمس الوعي كثيرًا؛ لأنَّ الأسلوب يخاطب الوعي ولكن عن تخدير. ربَّما أنت كوعي أسدٍ ولكن في قفص! أو كوعي زوبعة ولكن في مجرَّد فنجان! 

أسلوب الاستدراج والإغواء
كمَا ذكرنا من قبل هو أسلوب الشيطان في إضلال بني آدم وبث الوساوس كأفكار موحشة في النفوس. في البداية يقتنص مداخلك ثمَّ يطهي مكرَهُ بكل كراهية على نار هادئة. فإذا وجد فيك غلظة على المنكر أرخى ستائر مكره؛ كي لا تراه. وإذا وجد فيكَ تساهلًا على المُنكر سَحبَ الموقد ورفع النار من تحت الطهى ثمَّ يغويك فتسقط فيستزيد في الاستدراج.

 

الاختيار من محدود يضعك في سلَّة التلاعب. فيكون العرض لا يتناسق مع طلبك. لكنَّ العرض بارع يسوّق لك الأمر في أكثر من اختيار كأنَّك مُخيَّر أو أن طلبك بالفعل موجود
الاختيار من محدود يضعك في سلَّة التلاعب. فيكون العرض لا يتناسق مع طلبك. لكنَّ العرض بارع يسوّق لك الأمر في أكثر من اختيار كأنَّك مُخيَّر أو أن طلبك بالفعل موجود
 

لن تنام في يومٍ ثمَّ تستيقظ فتجد بداخلك رغبة عارمة في ادعاء الألوهية مثلًا! لكن بناءً على اقتناصه مدخلك بأنَّك حاكمٌ لتلك البلد. سوف يخبرك: إذن لمَ لا تُظهر للناس أفضالك أنَّك أخرجتهم من الظلمات إلى النور؟ فتفعل وتفعل. ثمَّ يخبرك: كيف تسمح لمن في الرأي مخالفك بأن يعارضك؟ فتفعل وتفعل. ثمَّ يخبرك: صار الناس يقدسونك خوفًا منك! فأنت تعذّب أبنائهم وتستحي نسائهم وتسومهم سوء العذاب. الأحرى بك أن تقف على أصقل جبل وتخبرهم بكل استكبار وعَنَت: أنا ربُّكم الأعلى! وبالفعل! هكذا تمَّت كلمة الشيطان على فرعون بأسلوب الاستدراج والإغواء!

أسلوب الاختيار الوهمي
الأمر تمامًا كأن أخبرك بأنَّ كرًة بيضاء صغيرة تختبئ بداخل إحدى هذه القبَّعات الثلاثة. فتختار واحدة ثمَّ الثانية ثمَّ الثالثة. ولا تجدها أبدًا! هكذا الاختيار من محدود يضعك في سلَّة التلاعب. فيكون العرض لا يتناسق مع طلبك. لكنَّ العرض بارع يسوّق لك الأمر في أكثر من اختيار كأنَّك مُخيَّر أو أن طلبك بالفعل موجود. لكن أنت بالنهاية تختار ما صاحب العرض أملاه على وعيك. ربَّما الأسلوب هذا كأسلوب البديهية الكاذبة؛ لأنَّه هو الآخر يصيب الوعي بالشلل فلا تتاح لك الفرصة في صده، إلا إذا كنت قد تآلفت عليه من قبل.

 

الأمر مشابه بأن تخبر الأم ابنها: سوف أسمح لك بالخروج ولكن سوف أعرض عليك صفقة: أتريد المجيء للبيت قبل التاسعة أم قبل الثامنة مساءً؟ في الواقع الصبي المسكين قد تبادر في خلده قبل السؤال أنَّه سيمضي خارج البيت حتَّى الحادية عشر! لكنَّ فجأة يُصاب الوعي بالشلل. فينخفض سقف الوعي من الطمع. وتكون الإجابة: حسنًا التاسعة لا بأس بها؛ لأنَّه يدري لو تذمَّر فإنه أبدًا لن يخرج! ويكون الأسلوب المُتّبع هنا أسلوب الاختيار الوهمي!

مع من يُستخدم زرع الأفكار؟ وهل قد يستخدم في غير محله؟ وما وجه الاستفادة منه أصلاً؟

الأمر ذو وجهين كمَّا بيَّنا في المقالتين، لذا الأمر كانَ مرهونًا في يد الزارع. لكن هُنالك تظهر المقاومة حيال وجهه المعتم من مضادات زراعة الأفكار المشوَّهة، وهو ما سوف نذكره تفصيلًا في المقالة الثالثة والأخيرة. هذا وبالإضافة إلى بعض الأساليب الجديدة لزرع الأفكار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.