شعار قسم مدونات

التعليم.. المفهوم المشوَّه والوَظيفة الضائِعة!

blogs محاضرة جامعية

كان على مر العصور طلب العلم وطالبه من التميز في مكان مرموق، وهذا ناتج بكل تأكيد عن لمس المجتمعات لأثر العلم النهضوي عليها. حيث أن العلم له سطوة تنظيمية على حياة الناس وبنيوية أفكارهم وسبل اتخاذهم لقراراتهم حيث يضبطها بعيداً عن العشوائية ويركزها ضمن مجالات ممنهجة في الاختيار بطريقة علمية أو منطقية على الأقل، مما يحسن الدور الحضاري للمجتمعات ويطوره.

لا شك أن الغالبية إن لم تكن جموع أفراد القومية العربية ككل تقر بتراجع دورها الحضاري بين الأمم بجوانبه جميعها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتنموياً… الخ من المجالات الحضارية، ولا شك أن هذا التراجع يحتاج إلى مراجعات جذرية في أسبابه الأصيلة لا الثانوية؛ إي كقول أن من أسباب تراجع دورنا الحضاري هو الفساد الإداري أو المالي في مؤسسات الوطن وما إلى ذلك؛ فهذه ليست أسباباً أصيلة بل أسبابٌ مترتبةٌ على الأسبابِ الأصيلة، فلا يعدو الفساد الماليّ عن كونه عملية سرقةٍ من طرازٍ رفيعٍ كما أنه لا يعدو الفسادُ الإداريّ كسلب الفرص وسوء الرقابة على العمل وتنظيمه عن كونه نقصٌ في روح ِالإنسانِ العادلِ والمسؤول، وكلها لا تعدو عن كونها أخلالاً أخلاقية، وهذه المشاكل فعلياً منبعها هو أصل الخلل فعملية سرقة لا تحتاج أكثر من قلة وازع ديني وأخلاقي وكذلك الأخرى، أو قلة الانتماء والحس الوطني.

أو القول أن من أسباب التراجع والتأخر هو الفشل الإداري والمالي – من الواضح استخدامي لمصطلح مختلف وهو الفشل وليس الفساد وأقصد الناتج عن الخطأ المهني – وهذا تحصيل حاصل للقصور أكاديمي – كأحد الأسباب الأصيلة – يمنعه ويقلل من قدرته على وضع خطط استراتيجية ممنهجة تسلك به إلى النجاح مما يؤدي إلى الفشل، أو الضعف الشخصي في المسؤول – كسبب أصيل ثاني – يعيق جرأة اتخاذ القرار والقدرة على الضبط مما يؤدي إلى حيرة وعدم سلاسة في الإجراءات العملية.

السبب الأصيل لِمُعظم مشاكل التأخر الحضاري في الأمم وبأي جانب من الجوانب تعود إلى الاستبدادِ الذي يَكبِتُ الحريات، ويمنع الأفراد من حرية اتخاذ قراراتهم

وهنا سأتحدث حول سببٍ أصيل من أسباب الفشل – وليس الفساد – ألا وهو القصور الأكاديمي والضعف الشخصي. لربما يتساءل أحدهم عن الرابط بين السببين مجيباً على التساؤل أقول أن الرابط بينهما ليس في بنيويتهما بل في مصدرهما ومنبع تلقيهما فاللؤلؤ والسمك شيئان متفرقان هذا طعام وذاك زينة ولكن الماء مصدرهما ولا يحتاج أمر خرابهما أكثر من تسمم الماء أو خلل به.

وهذان السببان السالف ذكرهما منفصلين فربما نجد المتميز أكاديميا ذو شخصية ضعيفة والعكس صحيح ولكن لو كانت المؤسسة التعليمية تقوم بوظيفتها بشكل متكامل يغطي كافة احتياجات المتعلم لما حصلت هذه المفارقة. لقد كانت المؤسسة التعليمية دوماَ في الحضارات المتقدمة والراقية متكاملة فيما تقدمه حيث تكون بيتاً تربوياً قبل أن تكون صفاً تعليمياً فتبني الشخصية وتبني العقل العلمي أيضاً فتنتج تفوقاً في الشخصية والعلمية.

أما اليوم فنحن بين أنموذجين يغلبان على الثالث الذي نريده:
1- أنموذج مدرسة أعراف تهتم بتفتيش الطالب وتقليم أظافره كل صباح في ضل تردٍ أكاديمي وينهمك – أحياناُ – بإدارة الأنشطة الكشفية والطلابية بعيداُ عن الإعداد العلمي لينتج قادة حركيين ضعيفين علمياً وفكريا.

2- وأنموذجٌ يهمل الأخلاقيات ويطور الجانب العلمي لينتج فلاسفةً حاذقين في ضل انعدام خلقي وضعف شخصي، وهو الذي أصفه بالعلمانية التعليمية التي تفصل التعليم عن الأخلاق كما تفصل العلمانية الدينَ عن السياسة.

وما أرى تراجع المؤسسات إلا من تراجع دور أفرادها فتراجع دور الأستاذ من الأستاذية إلى تلقين العلم لوحده، أو المعلم المربي لوحده؛ هو ما أنتج الأنموذجين السابقين وهذا التراجع يعود سببه الأصيل لعدة أسباب إدارية ومجتمعية سأطرح منها وأدرجها حسب تأثيرها ومصادرها:

1- ما بين التعليم والتلقين

وهو من أكبر أسباب ظهور النموذج الأول وهو مدرسة الأعراف المتأخرة علمياَ، فلا شك أن طريقة صم الكلمات وتكديسها في ذهن الطالب لن تعود عليه بجدوى قطعاً سوى عند تفريغ هذه الشحنة في ورقة الاختبار، ليأتي مفاخراً بمعدله العالي ونجاحه في عمليه شحن الكلمات من فم المعلم إلى ورقة الأسئلة وتفريغها. فنحن نحتاج إلى طرق ممنهجة من نقد وتحليل لما تحويه المناهج ودراسة نقدية لها ليستفاد من الأفكار وطرق التفكير وتطويرها في أذهان الطلاب وليتفهم الطالب المبادئ والأفكار وليس لينقلها كما الوعاء، هذا ما نحتاجه فعلياُ وليس لطرق متميزة في التحفيظ والتلقين.

2- ما بين التربية وتصنّع التّربي

وهذا من أوجه أسباب ظهور المدرسة الثانية مدرسة العلمانية التعليمية، فأقصد بتصنّع التّربي هنا: منع الطلاب وزجرهم عن ما هو منافٍ للأخلاق فقط دون توعية أخلاقية حقيقية؛ فما يلبث الطالب أن يغادر أسوار المدرسة إلا ليعود كما كان قبل دخولها مليئاً بالأخلال الأخلاقية؛ وهذا بسبب أننا لم نعالج المشكلة بل قمنا بعملية إيقافٍ مؤقت لها. نحتاج إلى عملية تأسيس وتطوير ومعالجة أخلاقية عند الطالب نفقهه من خلالها بمشاكل الانحراف الخُلقي والمشاكل التربوية حد أن نقنعه بالصواب وسوء الخطأ؛ فإذا اقتنع وضعنا بهذا عنده هاجساً وحساً وضميراً داخلياً يشكل نظاماً رقابياً ذاتياً مع الوقت سيريحنا من عمليه الرقابة المستنفرة. وجود أحد هاتين المشكلتين يؤدي لأحد النماذج السابقة أما اجتماعهما فهو كارثة فعلية.

3- اختلال الذائقة العلمية وتدني معيار الاختيار

نرى بطبيعة الحال أن نظرة المجتمع التي تنقاد خلف تحصيل الرزق والمكانة جعلت أصحاب التحصيل الأكاديمي العالي هم من يتوجهون لتخصصات الهندسة والطب، وبالمقابل تجد أن أدنى المعدلات هي تلك التي تُخصَصُ للذين يتمّون تخصصات ترسلهم للتعليم وإمامة المساجد ! كالشريعة مثلاً فهي من أقل معدلات القبول في الجامعات. لماذا لا يكون معلم الشريعة والإمام وغيره من المعلمين هم أصحابُ تحصيلٍ أكاديميٍ عالٍ فهم المسؤولون عن إنتاج الجيل والنخب الوطنية.

لا شك أننا بحاجةٍ لرفع قيمة المعلم مجتمعياً وأكاديمياً، ونحتاج إلى توفير صلاحياتٍ للمعلم كَأستاذ الجامعة مثلاَ ليتاح له ضبط سير العملية التعليمية
لا شك أننا بحاجةٍ لرفع قيمة المعلم مجتمعياً وأكاديمياً، ونحتاج إلى توفير صلاحياتٍ للمعلم كَأستاذ الجامعة مثلاَ ليتاح له ضبط سير العملية التعليمية
 

وهناك أخرى عديدة، كتعاملِ المجتمعِ مع المؤسسةِ التعليميةِ في بعض الأحيانِ والتضييق على المعلم في التعامل مع الطالب، أو التقليل من هيبة المعلم في المجتمع أو بتركه وحيداً في ساحة التربية والتعليم بعدم المتابعة والإهمال. وأضف إلى هذا أن غياب المحفزات عن المعلم تجعلهُ يؤدي دوره بلا فاعليةٍ وبإجبارٍ فقط؛ ليحصل على مُرَتَبِهِ نِهايةَ الّشهر، وأيضا غيابُ البنية التحتية يجعل المعلم في حرج وضيق وعجز عن إيجاد سبلٍ محفزة للطالب، وعدم وضوح الكثير من الأنظمة والقوانين، … كلها تأخر المعلم عن القيام بالتعليم كما يجب أن يكون.

لا شك أن هذه المشكلة كبيرة تحتاج لحلولٍ عميقة وجذرية، لا شك أننا بحاجةٍ لرفع قيمة المعلم مجتمعياً وأكاديمياً، ونحتاج إلى توفير صلاحياتٍ للمعلم كَأستاذ الجامعة مثلاَ ليتاح له ضبط سير العملية التعليمية، ونحتاجُ إلى توفير بنيةٍ تحتيةٍ لإسنادِ المعلم، ونحتاجُ إلى جعل المعلم نُخبةَ الوطن لِجعل الوطن وطناً نخبوياً، علينا أن نَنظُر لِلتعليمِ على أنه المُستحقُ لِاستنزافِ مواردنا فيه؛ فهو الذي سيعيد إنتاجها. وهذا يجب أن يكون بدايةً من خلال توجهٍ مهنيٍ من المعنيين ومن خلال خططٍ حكوميةٍ للتطويرِ والتحديث والرقابة والضبط وحراكٍ سياسيٍ من التياراتِ العريضةِ ومن خلال قرارٍ مجتمعيٍ واعٍ بواجبه تجاه أبنائه.

وأخيراً، علينا جميعاً أن ندرك أن السبب الأصيل لِمُعظم مشاكل التأخر الحضاري في الأمم وبأي جانب من الجوانب تعود إلى الاستبدادِ الذي يَكبِتُ الحريات، ويمنع الأفراد من حرية اتخاذ قراراتهم، وتحديد هيئة مستقبلهم وتشخيص مشاكلهم بإفراز نخبهم التي ستقوم بذلك إفرازاً حراً نزيهاً دون أي ضغط وتجيير، فإذا ما أُفرزت نخبٌ حيّةٌ من أوساطِ المجتمعات تَعيشُ هُمومهُ وتَعيها سَتكون قادرةً على تجاوزِ هذا الإشكالات وإفرازِ مؤسساتٍ تعليميةٍ بتشريعاتٍ عادلةٍ ورقابةٍ قويةٍ لنتائجَ متميزةٍ ومتقدمةٍ ومنافسة، وهذا لكل المؤسسات الوطنية وليس للتعليمِ فقط، علينا أن نَعي أن احتكارَ السلطة في أيادٍ محددةٍ لا تخشى زوال سُلطتها؛ يُميت وطَنيتها وحَسَ المسؤولية فيها؛ فلا هي مُسائلةٌ ولا هي زائلة؛ من هنا علينا الانطلاقُ بدايةً نحو بناء الحرية، والحالة السياسية المتقدمة؛ لاتخاذ قرارنا وإنقاذ مستقبلنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.