شعار قسم مدونات

موعد في سامراء.. حيث لن يجدني الموت!

مدونات - رجل يمشي في صحراء

"موعد في سامراء" هي قصة قصيرة للكاتب والناقد الإنجليزي (سومر ست موم)، تحكي -على لسان الموت- أن تاجرًا في بغداد أرسل في أحد الأيام خادمه إلى السوق ليأتيه برزق، وبعد قليل عاد الخادم شاحب الوجه مذعورًا وأخبره أنه قابل الموت في السوق وأنه نظر له بتهديد ووعيد، فطلب منه الخادم جوادًا يركبه بعيدًا عن المدينة هربًا من المصير المشؤوم، (سأذهب إلى سامراء… حيث لن يجدني الموت) هكذا قال الخادم بعد أن امتطى الحصان وغمزه ليعدو بعزم ما فيه. ثم ذهب التاجر إلى السوق ليجد الموت هناك فسأله لم نظر لخادمه بتهديد في الصباح؟ فأجابه الموت متعجبًا: لم تكن تلك نظرات تهديد بل تعجب، لقد تعجب الموت لأن يراه هنا في بغداد ولديه موعد معه الليلة في سامراء!

 

هناك قصة متشابهة قليلًا لهذه القصة في التراث العربي وربما استوحاها الكاتب الإنجليزي منها وهي قصة رسول الموت وسيدنا سليمان ووزيره الذي هرب من الموت إلى الهند فوجد رسول الموت ينتظره هناك. في الأدب تجد أن الخلود سلعة تاجر بها الأدباء كثيرًا على مر العصور. وإن فكرة هزيمة الموت لطالما راقت للناس. روايات كثيرة كـ"حجر الفيلسوف" أو "أرض الأبدية" أو رواية "إكسير الحياة" والتي دارت حول "ينبوع الشباب" أسطورة الكاريبي الشهيرة، وهو يفترض -في الأسطورة- أنه نبع يعيد للناس شبابهم بمجرد أن تشرب منه أو تستحم فيه.

 

من كتب له الموت في سامراء.. سيموت في سامراء. هنا تعجز الفلسفة والفيزياء والكيمياء والأحياء أن تساعدك. هنا لا تجد إلا الكتب السماوية تجيبك على سؤالك

كلها قصص تدور في نفس الفكرة تقريبًا. هل الموت محتوم؟ الإجابة على هذا السؤال أجابها الدين منذ قرون. ولم نرى من الشواهد حتى الآن ما يخالف الدين. فالموتى لم يستيقظوا منذ عهد الأنبياء على حد علمي. الجميع يموت لذا فالموت لم يعد حدثًا عظيمًا منذ زمن، لم يعد جديدًا. وكلما تقدم بك العمر اكتشفت أن الموت والحياة ليس بينهما تضاد كما زعموا، بل تكامل. فمسيرة الحياة هي نفسها مسيرة الموت، ولدا في نفس اللحظة، وبهما اكتملت اركان الوجود. فالموت ركنٌ من أركان الحياة، والحياة ركنُ من أركان الموت. متكاملان فلا معنى لأحدهما دون الآخر. فالموت في حقيقته حياة والحياة في حقيقتها موت وهي الحقيقة التي استسلمت لها البشرية منذ البداية.

 

كلامٌ قاسٍ ككل الحقائق التي نكرهها. ولكنها حقيقة يتعلمها الكبير والصغير بعد مدة. فالموت حدث واحد يحدث للجميع، قد يكون بسكتة قلبية، قد يكون بطلقة مسدس، قد يكون بحادث سيارة أو قطار أو طائرة، لا فرق… لا فرق! لو تصفحت بسرعة الأمراض التي يمكن أن تقتلك لتعجبت من تلك المعجزة التي تبقى أحدنا حيًا يرزق في هذا العالم. الإنسان ضعيفٌ جدًا.. هشٌ للغاية. ولكن كلها تبقى مسببات تؤدي إلى نفس النتيجة، وهي جسدٌ هامدٌ راقدٌ أمامك شاخص البصر فاغر الفم لولا سكون ضربات قلبه لظننته نائمًا. لكن العيون؛ لا أعرف من وصف العيون بأنها باب للروح ولكنه عبقري بحق. بنظرة واحدة في عينيه ستعرف أن المعجزة الإلهية التي جعلت كتلة العضلات والأنسجة والأعضاء تلك تشعر وتفكر وتحب وتتشاجر.. رحلت.

 

تكلم الكثيرون عن الموت، واتفقوا واختلفوا؛ الشعراء والأدباء ورجال الدين ورجال العلم. كلامٌ كثير وإن تكرر فلا يزال يملك رونقه بعد، للموت جمالٌ وهيبة فهو أكبر من الحياة نفسها وهو فن جمالي قائم ما بقيت الحياة. فلا جديد في الموت فهو يتكرر كل يوم. يتكرر لك كل يوم. فأنت تموت كل يوم. أفكارك تولد ثم تزدهر وتتفرع ثم تموت، مشاعرك تزدهر ثم تبرد وتفنى، حاضرك جثة ماضيك، ومستقبلك جثة حاضرك، بل وخلايانا مبرمجة على الموت، خلايا جسدنا من دهون وعضلات وشعر وكرات دم كلها هذا يولد ويعيش ويموت بداخلنا. إذًا فلم العجب وكل منا يحمل الموت بين كتفيه ووراء ضلوعه؟ لم كل هذا التعجب والتذمر عندما نموت؟ فلو تأملنا الأمر فالمرء منا يموت من اليوم الذي ولد فيه. فسر الدكتور (مصطفى محمود) هذه الظاهرة في كتابه (لغز الموت) وقال رغم أننا نشبه نعشًا على قدمين فنحن لا نرى ذلك. أنت لا ترى موت خلايا دمك ثم مولدها من نخاعك العظمي. أنت لا ترى البكتيريا وهي تقتلك وتقتلها كل يوم، وخلاياك لا ترى نفسها وهي تفنى أيضًا.
   undefined

 

لذا فنحن نفزع في تلك المواقف لأنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة. فالموت يتعامل معنا كل يوم كلص يمشي على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا وتموت له خلايانا… خلية… خلية، ولكن نحن لا ندري، الأمور كلها تدور في الظلام دون أن نشعر، دون أن نرى. فالأمر أشبه بشجرة تساقطت أوراقها ولكن للعيان تظل كما هي بزهرها وأوراقها. كل ذلك حتى تصل قوة غاشمة تنزع الشجرة من الأرض وتلقيها في عرض الطريق. عندها فجأة لم تعد شجرة. لقد أصبحت شيئًا آخر بفروعها العارية وجذورها النخرة لقد صارت.. خشبًا وهو ما يحدث حين يسقط الإنسان جثة هامدة. الأمر متشابه إلى حدٍ مفزع. بل الخوف من الموت في حد ذاته عملٌ معقد وشائك ومتناقض لدرجة تثير الغيظ. فهناك الحقيقة المنطقية بأن الخوف من المحتوم عبث. فخوفك منه كخوفك من إشراق الشمس ولمعان النجوم. وهناك الواقع أن هذا الخوف جزءٌ لا يُفصل من غريزتنا وواقعٌ نعيشه ونراه. فلم؟
 
في رأي أن الناس لا تخاف من الموت. ليس حقًا، بل تخاف من المجهول الذي يليه. فلو نظرت للموت بمنظور مادي بحت فهو حدث يحدث للآخرين لا لك. أهلك سيفتقدونك وربما يبكونك شهورًا، وهو الجانب العاطفي المعقول في الموت، نحن نشتاق لأحبابنا، نحن نبكي لفراقهم رغم عقيدتنا التي تقول انه ليس بوداعٍ ابدًا ولكن نحن نبكي ونبكي ملء عيوننا. ولكن الميت لا يعنيه كل هذا. أنت في هذه اللحظة هنا ثم انت هناك وراء الحجاب الذي ينتهي عنده علم الخلق. هذا هو الموت، أسرع مما تتصور وأبسط مما تخيل بعد أن تحررت من قوانين هذا العالم وصرت أنت في علم الغيب.
 
وهو ليس بالحدث الجديد ولم يحدث بلا تحذير. فمن اللحظة التي كان فيها رحم أمك لا يكف عن الانقباض وثم حملوك بجسدك الواهن لتصرخ أولى صرخاتك وتستنشق روحك الحياة.. علمنا.. وعلمت أنت فيما بعد … ستموت… ستعيش… ستحب … ستشعر… ستفكر.. ثم تموت ويبقى عملك ويبقى غرزك الذي غرزتك وبصماتك وآثار خطاك لتدل عليك وتخبر من يأتي بعدك أنك كنت هنا، ولكن أنت لن تكون معنا لتخبرنا عنك فبعد أن انقطع علمنا عنك وعلمك عنا. فالموت كغيره من أسرار الكون لا نعرف عنها أكثر مما نجهل. لذا فبعد كل هذه القرون ما زال لغزًا كما هو. وعلامات الاستفهام حوله ربما لن نمحوها إلا عندما نموت وتخطو أرواحنا في ذلك الطريق الذي لم يعد منه أحد، سنقابل في آخره جنة ونار وحساب وميزان.

 

وسيسألنا الله الذي خلقنا وخلق الجنة والنار والموت والحياة عن عملنا وأهلنا ونفسنا. سؤال العالِمْ بما تخفي الصدور وتُكنْ الضمائر، فبم تجيب؟ ولكن تبقى الحقيقة المثبتة التي لا يختلف عليها عاقل وهي أن الموت ينتظر الجميع يقول هذا التليسكوب والمايكروسكوب والعيون المجردة وكتب التاريخ وشواهد القبور التي تخبرك بكل وضوح: أن الخلود يا حمقى لا يسكن إلا في خيال كتّاب القصص وهي إجابة مشبعة لا تحتاج للتأويل. وهذه الحقيقة هي التي تجعل الخوف من الموت عملٌ معقد ومتناقض كما قلت. فبرغم كونه غريزة بداخلك ومبدأ وعقيدة نُحتت في جدران وعيك فهذا الخوف عبثي وبلا جدوى.

 
فمن كتب له الموت في سامراء.. سيموت في سامراء. هنا تعجز الفلسفة والفيزياء والكيمياء والأحياء أن تساعدك. هنا لا تجد إلا الكتب السماوية تجيبك على سؤالك، وهي الكتب الوحيدة التي أجابت على أسرار الغيب بإجابات ما زالت تتحدى جميع العلوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.