شعار قسم مدونات

كيف نؤمن بالله؟

blogs عبادة

الإيمان بالفكرة هو الخطوة الأولى نحو تحقيق الأهداف العظيمة، وبلوغ الغايات السامية، فلا بأس أن تطول فترة التربية للنفوس المؤمنة؛ فتكون أقدر على تحمل تبعات طريق صعب وشاق وطويل، طريق تحفه الشبهات والشهوات، ومع ذلك يحمل هذا المؤمن، مشعل الإيمان في قلبه، فيبقيه على الجادة بإذن ربه، حتى يصل إلى مبتغاه دون أن تنهشه كلاليب الفتن، ينجو منها واحدة بعد أخرى، فتعلو النفس وتسمو بإيمانها، ذلك أن إغراءات الدنيا مجتمعة، هي أهون عليه، من أن يلتفت إليها، فضلا عن أن تشغل عليه قلبه، وهو في ذلك ليس ملاكا، إنه بشر، يصيب ويخطئ، يحسن ويسيئ، لكن إذا كان لابد له أن يختار بين دنيا وآخرة، بين نار وجنة، بين أن يكون جنديا للرحمن أو الشيطان، اشتغل محرك الإيمان في قلبه، فرأيته يفر منه إليه، فيلتزم أمره سبحانه، ويقدمه على هوى نفسه، وهو مشفق وجل من مقام ربه، قال تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" (النازعات:40-41).

تعيش النفس في الحياة الدنيا والآخرة، بين نعيمين وذلين:
فأما النعيمين: فنعيم الدنيا وهذا حاصل بعزة الإيمان، عزة تقود صاحبها إلى النصر، وهو إما شهادة في سبيل الله، أو إعلاء كلمة الله، أما نعيم الآخرة فمرضاة الرب عز وجل، ثم جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. وأما الذلين: فذل الدنيا، وهذه تظل في النفس حسرة، حتى وإن ملك ذلك الطاغية أموال الدنيا، وصغارا وإن حاز أعلى المناصب الدنيوية، وأعظم من ذلك وأدهى، ذل الآخرة بين يدي الله، وعلى رؤوس الخلائق.

إن النفس المؤمنة إذا ذكرت هذين النعيمين، استهانت بأي نعيم زائل، قد يعرضه لها المرجفون، في سبيل ترك الإسلام، أو التخلي عن حب الأوطان، ثم إذا تأملت الذلين، فرت هذه النفس منهما فرارها من الأسد، فترى العذاب مع الإيمان منحة، تصفي النفس من شوائب الحياة. ونموذج النفس الأولى، مصعب بن عمير رضي الله عنه، الذي رأى أن متاع الدنيا ونعيمها لا يساوي لحظة يستمتع فيها بوقفة بين يدي الله، وأموالها أحقر من دينار ينفقه في سبيل الله، وساعات اللهو والمرح تسقط أمام ساعة يقضيها معلما للناس أمور دينهم، فيحوز شرف تمهيد الطريق للدولة، وتهيئة النفوس لاستقبال دعوة السماء.

ترى الأسرى في سجون الاحتلال رؤوسهم شامخة، وكلما خضعت ساجدة لله، ارتفعت فوق عدوها، بما استمدته من القوة والمدد الإلهي، وجوارحهم هادئة مطمئنة لما أصابها

ويقتفي منهجه ذلك الشاب، المنعم المرفه المدلل، كان ذا مال فلم يجنح للسهر في الملاهي وصالات الحرام، وله وسامة وعذوبة حديث، لكنه لم يجاري الفتيات، ولو أراد لفعل، غير أنه كره حياة الدعة، ورفض الراحة، والمسجد الأقصى المبارك، يتعرض لإفساد المستوطنين وقوات البغي والعدوان، وأرضه يعلو فيها صوت المحتلين، معتدين تارة، ومحاصرين تارة أخرى، فينطلق بائعا نفسه وماله لله تعالى، فيلقى الله شهيدا وما ذاق لذة الدنيا، فتبكيه العيون كما بكت الشهيد الشاب، مصعب بن عمير، تبكيه أو لا تبكيه، فقد فاز بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأما الثانية فنفس بلال بن رباح رضي الله عنه، الذي سامه المشركون سوء العذاب، فلم يكن عذابهم سوى طاقة يدخرها سنين حياته، يتقوى بها في كل محطة، إلى أن يصل بها إلى يوم الفتح، فيعلو سطح الكعبة المشرفة ويرفع الأذان، لم يكن ليعلو سطح الكعبة، لو لم يعلو بإيمانه على سياط الجلاد، حينما كان يصرخ.. أحد.. أحد.. إنه يفسد على الباطل نشوته بالنيل منه، ويقطع عليه محاولاته لإغرائه بالردة عن الإيمان، والتحول عن الفكرة، والقعود عن الدعوة.

وترى الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي يسيرون على خطى بلال، إنهم عزل من كل شيء، إلا من الإيمان، وفق معادلات الأسر يفترض أن يكونوا مطأطئ الرؤوس، خاضعي الجوارح، لكنهم ليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء، فرؤوسهم شامخة، وكلما خضعت ساجدة لله، ارتفعت فوق عدوها، بما استمدته من القوة والمدد الإلهي، وجوارحهم هادئة مطمئنة لما أصابها، وكلما ارتعشت من خشية الله، انتفضت ثائرة على الظلم.

ليس الأمر عسيرا، فإذا أردت الله والدار الآخرة حقيقة لا مراء، ثبت الله جنانك، قال تعالى: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم:27)، وشرح صدرك، قال تعالى: "أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الزمر:22)، فرأيت تطاول الباطل انتفاشة لا تلبث أن تزول، وإن كان ذلك مؤلما، وعدوان الطغاة على المؤمنين تمحيصا، وإن كان ظاهره هلاك النفس والمال، على أن ذلك لا يعني التسليم لأولئك، بل مقاومة راسخة واعية من أجل التغيير، احقاقا للحق، وإعلاء لكلمة الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.