شعار قسم مدونات

الألم.. كيف نفهمه مأساة أم منجاة؟

مدونات - الألم حزين رجل مكتئب
لطالما ترسَّخت في عقولنا الصغيرة مفاهيم الخوف من الألم، ومن أي حدثٍ قد يؤدِّي إليه، وأُثيرت في نفوسنا مشاعر الشفقة تجاه كل مَن يُعاني، حتى غدا مفهوم الألم شيئاً منبوذاً بشكلٍ كبير. وماذا حدث بعد ذلك؟ الانهيار عند أول مصيبة، الشتات عند أول تفكِّك، الضياع عند أول تغيُّر، والموْت حُزناً عند أول فَقْد. نشأت أنفسنا وتمَّت تربيتها بطريقة أن صاحب المنجاة في البلاد هو مَن تجنَّب المعاناة، وأن أولئك المتعرِّضون لها أعانهم الله على مآسيهم، يفتقدون معاني الحياة الحقيقية.

 

فالطفل الذي تفرَّق أبواه ينظر إليه بقية الأطفال على أنه مسكين وقد تعلَّموا ذلك من والدَيْهم وحتى قد ينبِّههم ذووهم بأن لا يقتربوا منه.. لأنه لم ينشأ في وسط عائلة صحيحة وأن بتربيته حدث خللٌ ما. واللاجئ الذي ترك وطنه يُنظَر إليه على أنه لصٌّ سارق لأنه يُعاني فقد يرتكب أي حماقة لذلك يُفضَّل عدم الاقتراب منه. والامرأة المُطلَّقة يُنظَر إليها على أنها عَيْبٌ والأكمل أن يرتبط الرجل بالعازبة العذراء. والرجل المُنفصل يُنظر إليه بأن يجب أن يأخذ فتاة من مستواه -مُطلَّقة- لأن العزباء التي هي الشريفة بنظرهم لا تليق إلا بأعزب. والطفل الذي توفِّيت أمه أو أباه أو كلاهما يصبح منبوذاً يُثير الشفقة ويُعرف عند الجميع أنه ذو مستقبلٍ ضائع بدون طريق آمن.

 

من رحم كل تلك الآلام وُلِد إبداعهم، لذا يجب أن لا يُنظر للمأساة سوى أنها رَحِم الخروج إلى نور فهم حقيقة الكون، وأن الحياة الرتيبة هي الظُّلمة بعَيْنها..

هكذا أفهمونا الألم دائماً؛ أنه المأساة الذي لو تعرَّضتَ له لأصبحت منبوذاً مرفوضاً يتيماً وحيداً بدون مكانة، وتنتهي فرصك في الحياة وتُصبح مع طبقة المساكين مَن تُغلق في وجوههم كل الأبواب. والحال أن هؤلاء المساكين هم بُناة الأوطان هذه، وأن مَن يُثير الشفقة فعلاً هو مَن لا يعرف مذاق الألم في حياته، ولم يتجرَّع فَقْداً ولا تغيُّراً فاجعاً ولا مُصاباً عظيماً. ماذا لو كانت تربيتنا بمفهومٍ آخر تماماً؟ مثلاً؛ لو قيل لنا في صغرنا بأن كُلّ مَن يفقد إنساناً أوشيئاً مادياً أو وطناً يُرزق بأرزاق معنويَّة لا تُعدَّ، فيخرج من صلب ألمه فَهم فلسفة الحياة ويغدو عَلَماً يُشار إليه لأن الوحيد القادر على صبِّ مشاعره التي تسيل من جرحه العميق على شكلٍ يُثير إعجاب العالم برُمَّته، فقد يكون ذلك بالريشة أو بالقلم أو بالعزف.. وهل برز لنا أدباء وفنانين سوى من أولئك الذين تجرَّعوا المعاناة؟

  

في الحقيقة كلُّ مَن دمعت عيوننا من حروفهم، ومَن أجهشت قلوبنا من ألحانهم، ومَن ذُهِلت عقولنا من لوحاتهم.. كلُّ مَن أردنا الغوْص في محيط منتوجهم الفكريّ وخُلاصة فهمهم للحياة، وكُلُّ مَن دُهِشنا وقلنا وكأنَّه يتحدَّث عنا! كُلُّ أولئك لم تكن حياتهم مثالية ولا يمكن أن تكون أصلاً، زبدة فهمه لهذا الكون أتت من تجارب صهرته وطحنته وأذلَّته وشتَّتْه.. ولم تكن يوميَّاته سهلة العَيْش، ولم يكن مَن حوله يقفون بجانبه، ولم تكن ممتلكاته كالآخرين، ولم تكن ظروفه بدون شوائب.. واذهب في رحلة بحث في تفاصيل حياة كل أولئك العَظَمة، وستعرف كم من المُرِّ تُجرِّع، وكم من الشُتات حدث، وكم من الرفض والنبذ تُحمِّل..

 

ومن رحم كل تلك الآلام وُلِد إبداعهم، لذا يجب أن لا يُنظر للمأساة سوى أنها رَحِم الخروج إلى نور فهم حقيقة الكون، وأن الحياة الرتيبة هي الظُّلمة بعَيْنها.. لستَ مُجبراً أن تتجرَّع ألماً وأن تُحضِر إلى حياتك الصعوبات، لكن أرجوك إن اخترتَ حياةً رتيبةً لا تنظر لصاحب الألم بشفقة وحسرة، فهو بذرة شجرةٍ عظيمة سيأكل من ثمارها أطفالك وأحفادك عندما يتيهون ويريدون أن يفهموا معنى هذه الحياة.. كما نأكل نحن اليوم ثمار إبداع كل مَن تألَّم في القرون السابقة، وكما نجد ذواتنا الضائعة في طيَّات كُتبهم وفِكرهم.

 

يقول مصطفى صادق الرافعي عظيم الأدب العربيّ في كتابه حديث القمر:"فلا يستروح هذا الإنسان من ألمه إلا وقد أكسبه الألم فضل الإنسانية وصحة الإيمان وقوة النفس؛ وإن مرض يوم واحد تتوجه فيه النفس إلى الله وتعرف كيف تتنزه عن دناياه الأرض وشهواتها، لهو أجدى لها وأرد عليها بفضيلة الإنسانية من قطع دهر في دراسة كل ممتع من كتب الفلسفة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.