شعار قسم مدونات

مهنة المشاطة في السودان.. ماذا تعرف عنها؟

ماشطة الشعر

زمان ليس بالبعيد نذكره، امتهنت كثير من النساء في السودان مهنة "المُشاط"، والمشاط هو نشاط ومهنة اجتماعية نهلت من التراث السوداني، ومن الأنطولوجيا الثقافية المجتمعية في الحضارة الكوشية القديمة، وتُظهر الكثير من المنحوتات والجداريات المنقوشة في الحوائط القديمة هذه المهنة النسائية.

"المشاطة" (وهو اسم لمهنة المرأة التي كانت تعمل في صناعة كوافير الشعر وعمل الضفائر والجدائل الأفريقية المعروفة)، المشَّاطة دائماً ما تشتهر بكونها امرأة ذات مهنية عالية، ودقة وسرعة في فرد وتسريح وحبك لفائف الشعر وإخراجها في ثوب جميل وراقي، كانت تُفاخر به أمهاتنا وحبوباتنا، ويتباهين بحلاته وأناقته في المناسبات والأفراح التي تجمعهن مع بعض النسوة، كنوع من القيمة المجتمعية ونوع من الرفاهية الأستقراطية، التي تعتز بجماله نساء ذلك الزمان، مثله مثل "الحناء السودانية" السوداء التي تُرسم علي الأيدي والأرجل.

اشتهرت المشَّاطة في المجتمعات السودانية بكونها طويلة اللسان، ولا تحفظ الأسرار، لذلك يُقال للكلام عديم الفائدة (كلام مشَّاطات)، فهي تفرض سطوتها ومكانتها داخل الحيِّز المكاني في البيوت والمناسبات بكثرة ال"الثرثرة"، وذلك بواسطة ما تحمل وتقُص به علي النساء من أخبار حصرية وطازجة من داخل البيوت التي كانت تعمل فيها، وبالتالي كان يُسمح لها بحرية الكلام وأن تتحدث كما تشاء، وعن أي موضوع دون وجل أو خشية، فهي الشخص الوحيد المسموح له بالحديث دونما حواجز، تتحدث كما يحلو لها، ويروق للأخريات من النساء سماعها، وسماع رواياتها وقصصها، ولكن دائماً ما تخاف ربات البيوت من تناول أسرار المنزل أمامها، حتي لا تنقل اخبارهم هم أيضاً الي البيوت الأخرى، وثق لتلك الحالة "المُشاطية" من نقل الخبريات والأخبار المثل الشعبي السوداني المتداول بين الناس في وصف الشخص الفصيح وكثير الكلام و(شيَّال الحال) أي الذي لا يحفظ الأسرار، عبارة (فلان دا التقول عليه مْشَّاطة).

أشهر المشاطات عبر التاريخ
تعتبر مهنة المشَّاطة مهنة مزاج، لها طقوس محددة لابد من تحضيرها، وفِي حالة عدم اكتمال الطقوس المُشاطية، فإنها الجلسة لا تُعقد …، حيث تكتمل جلسة المُشاط بالقهوة السودانية

هي ماشطة بنت فرعون التي أسلمت مع موسي عليه السلام، ويذكر الحديث: أنه خلال المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم وجد رائحة طيبة كرائحة المسك وعندما سأل عليه الصلاة والسلام عن ذلك، أجابه جبرائيل عليه السلام أنه رائحة الوصيفة التي كانت تعمل في بيت فرعون (زمن موسى عليه السلام). وهي امرأة كانت قد تركت دينها سراً لكن افتضح أمرها عندما سقط المشط من يدها وقالت "بسم الله". وعندما سمع فرعون بذلك أحرقها هي وأبناءها. وقد قيل إن رضيعها كلمها في تلك اللحظة وطلب منها أن تحتفظ بهدوئها والتمسك بإيمانها. وبسبب إيمانها العظيم، وقام فرعون بتعذيبها وحرقها في الفرن حتي تكون عبرة للآخرين ولكن الله اعلي ذكرها وتناقلت قصة ايمانها الأجيال .

صالت وجالت "المشَّاطة" في المجتمع السوداني، وكانت ذات حضور مرموق، ونالت سطوة على المشهد "الكوافيري" التجميلي المرتبط بزينة النساء، قبل حلول عصر الصالونات، والزينة والتسريحات والتقليعات الحديثة، فقد كانت شخصية محورية وذات قيمة مجتمعية مرتبطة بالجمال الأنثوي الواجب، تُرصد لها الميزانيات في البيوت ويعمل لرضائها وكسب وُدّها ألف حساب، فهي تتمتع بعمل هو من الضرورة الحياتية، ومطلب أساسي لزينة وكمال المرأة، حتى أن مُشاط "العروس" كانت تقوم به المشَّاطة وتضطلع بمهمة بتجهيزها بالكامل، وتضرب في ذَلِك الحجوزات منذ وقت مبكر، كما كانت تقوم بتمشيط سيدات المجتمع، ووجيهات المدينة في ذلك الزمان.

تعتبر مهنة المشَّاطة مهنة مزاج، لها طقوس محددة لابد من تحضيرها، وفِي حالة عدم اكتمال الطقوس المُشاطية، فإنها الجلسة لا تُعقد …، حيث تكتمل جلسة المُشاط بالقهوة السودانية، ويُصب لها منها البكر والتني والتلت،… وحتي تكتفي. (وهي طرقة عمل القهوة في السودان)، وأحيانا الشاي إن طلبته، تلك القعدة المُشاطية كانت منتدى حافلاً ومحضوراً، به كل الجديد من الأخبار، وشمارات النساء والبيوت في ذلك الحي، والأحياء المجاورة.

المشاطة لديها أدواتها البلدية الخاصة التي تستعملها وهي "اللشفة والمسلة أو شوكة التمر الكبيرة"، وتضع جميع هذه الأدوات في إناء خاص مع "الدلكة المذابة" (رائحة بلدية وعطور نسائي) التي تساعدها في عملها في تمشيط الشعر و"زيت الكركار" الذي يستخدم لتنعيمه.

هذه المهنة التراثية الجميلة بالمجتمع السوداني هي الآن قيد الاندثار، بسبب اتجاه الكثيرات الي صالونات التجميل التي تقدم خدمات أرقي بكثير من ثرثرة المشَّاطة
هذه المهنة التراثية الجميلة بالمجتمع السوداني هي الآن قيد الاندثار، بسبب اتجاه الكثيرات الي صالونات التجميل التي تقدم خدمات أرقي بكثير من ثرثرة المشَّاطة
 
مشاطة أم المك وسر التسمية

القصة تقول: إن أم أحد المكوك السودانيين القدماء كانت تُعيَّر عند النساء بقصر شعرها، وكانت كلما تستدعي مشاطة لتسريح شعرها، فتكمل مشاط شعرها في يوم واحد فقط، مما يسبب لها الحرج والقيل والقال، بكون وصمها بقصر شعرها عند اهل المدينة، فيقوم المك بقطع رقبتها حتى لا يقال أم المك ما عندها شعر، وذات مرة جيء لها بمشاطة كانت ذكية جداً، فأخذت تمشط خصلتين فقط في اليوم، وتكمل باقي اليوم في الونسة، إلى أن أكملت تمشيطها في مدة طويلة، وأصبحت بذلك مضرب مثل لكل من ينفق وقتاً طويلاً في أداء عمل ما، لا يستحق كل هذا الوقت، فيقال كـ (مشاطة أم المك).

هذه المهنة التراثية الجميلة في المجتمع السوداني هي الآن قيد الاندثار، بسبب اتجاه الكثيرات الي صالونات التجميل وبسبب أن بالكوافيرات تقدم خدمات أرقي بكثير من ثرثرة المشَّاطة الغير لازمة وكشفها للحال في البيوت. نتمنى من العاملين بقطاع السياحة والثقافة تطوير هذه المهنة لأن بها الكثير من الفن والموروث الجميل الذي يُظهر أصول المرأة السودانية وانتماءها لأم الحضارات الأفريقية في كوش.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.