شعار قسم مدونات

الاكتئاب.. كيف تُقتل أرواحنا في صمت؟

blogs حزن

بعد انتشار أخبار عن انتحار المصممة كيت سبيل التي كانت تعاني من أمراض المزاج والاكتئاب ثم انتحار مقدم البرامج الشهير Anthony bourdain تذكرت مقالا كنت قد كتبته عن الاكتئاب منذ مدة ولم أنشره. الاكتئاب ذلك الاسم الذي أصبحنا نسمعه كثيرا ولا نعلم عنه كثيرا، يظنه البعض فشلا، ويظنه آخرون دلالا أو ربما ارتبط بالحسد والعين والسحر.

رأيت العديد من المصابين بالاكتئاب خصوصا في بلداننا العربية يقاومون ويعيشون من غير إحساس حتى لا يحس بمعاناتهم الآخرون خوفا من وصفهم بالجنون أو الضعف، وآخرون لا يعلمون ما الذي حل بهم ولا كيف يطلبون المعونة، وإن تجرأوا وطلبوها تنهال عليهم النصائح بالتقرب من الله والصلاة وقراءة القرآن التي تفيد بلا شك الانسان العادي أو من يمر بحالة حزن عادية بينما لن تزيد سوى الطينة بلة عند المكتئب. في بلادنا نزور الشيخ للرقية ولا نفكر أبدا بزيارة الطبيب أو المستشار النفسي فهو للمجانين فقط.

أخبرتني مرة فتاة تعاني في صمت وترجمت معاناتها بضعف في الإيمان وعدم شكر للنعم، فكيف لها ألا تفرح ولا تحس بحجم النعم حولها والناس يعانون المرض والفقر والحروب وتجد بسمتهم لا تفارقهم، رسالة كهذه لم تحس بها وحدها بل حتى المقربون منها يصفونها بالجاحدة المدللة، هذه الفتاة التي لم تَر من الحياة أي شيء بعد، لم تتخرج بعد ولم تتزوج ولم تتحمل أية مسؤوليات في الحياة غير أنها تحس الحياة كالجبل فوق ظهرها.

 

مريض الاكتئاب والمريض النفسي عموما في مجتمعاتنا يعاني في صمت. ولا يعلم ما الذي يصيبه، والأمر من ذلك أن من حوله لا يعلمون عن معاناته شيئا بل يتهمونه بالكسل

أنفاسها صارت كالحبل حول عنقها، فقدت رغبتها في كل شيء في الحياة، فهي تعيش أيامها كتكرار لنفس اليوم ونفس المشهد، جمعات الأصدقاء والعائلة أصبحت كالكابوس بالنسبة لها فلا رغبة لديها للحديث والضحك، حتى أصبحت تتحاشى الجميع، وتهرب من الازدحام ومن كل شيء، تختبأ في غرفتها، تقلب كمبيوترها بلا هدف تنام كثيرا وتسهر كثيرا، تنقطع عن الأكل تارة ثم تعود له بشراهة.

 

أخبرتني أن أصدقاءها يلومونها فقد ابتعدت عنهم ولم تعد تتواصل معهم، وأن أهلها يتهمونها بالفشل والتقصير والدلال فبالنسبة لهم لم يقصروا في تلبية طلباتها والاعتناء بها، حتى هي لا تعرف ما يحدث لها ولا كيف تخرج من هذه الدوامة، فلم تعد لديها الرغبة لفعل أي شيء، لم تعد تذهب للجامعة ليس لأنها لا تستطيع الاستيقاظ صباحا بل لأنها تخاف، فلم تعد تستطيع التواصل مع الناس وتظن الجميع يشير لها ويتكلم عنها، أخبرتني أنها لم تمتلك الجرأة لتكلم أحدا عما تعيشه فالكل يصفها بالمدللة وبعضهم يتكلم عن عين أصابتها، غير أنها لم تعد تحتمل سجنها داخل نفسها وتتمنى الموت مرات كثيرة. قصص مثل هذه تتكرر على أسماعنا وربما أغلبها لا نسمع بها، مريض الاكتئاب والمريض النفسي عموما في مجتمعاتنا يعاني في صمت. ولا يعلم ما الذي يصيبه، والأمر من ذلك أن من حوله لا يعلمون عن معاناته شيئا بل يتهمونه بالكسل، أو في أحيان كثيرة نترجم كل التغيرات بالعين والحسد والسحر.

رغم كل هذه المعاناة الا أن أمراض الاكتئاب والمزاج وجل الأمراض النفسية يمكن أن تحل أو نخفف من أعراضها بالعلاج الدوائي والدعم النفسي
رغم كل هذه المعاناة الا أن أمراض الاكتئاب والمزاج وجل الأمراض النفسية يمكن أن تحل أو نخفف من أعراضها بالعلاج الدوائي والدعم النفسي
 

ثم حتى إن فهموا ما يعيشه المريض تنهال عليه النصائح من كل صوب وحدب ليخرج ولا يبقى في البيت، ليقاوم، ليرجع الا الله فقد يكون ما أصابه ضعف في الإيمان،… ولا تزيد هذه النصائح عن حسن نية الا في الضغط على المريض وإتعابه، فهو أصلا يعيش حالة من انعدام الثقة بالنفس وضعف تقدير الذات بل وجلد الذات ولا يحتاج للمزيد.

فالاكتئاب مثلا لا يعني الحزن البسيط أو الفشل الذي نستطيع الخروج منه إن قاومنا أو بجرعة إيمان أو نجاح زائدة، بل هو كالدود ينخر في روح الانسان ويهلكه حتى يفقد القدرة على الاستمتاع بالحياة، بل يفقد شعوره بالحياة، ويدخل في دوامة من المعاناة والألم النفسي وربما الجسدي تعتصره كأنما يدور في فراغ حتى يفقد القدرة على الألم ثم على الحياة، فيستمر كأنما هو ميت يمشي على الأرض أو يضع حدا لحياته، مريض الاكتئاب يفقد القدرة حتى في أبسط الأشياء فلا يتلذذ بالطعام ولا يرتاح في النوم ولا يحس بالعبادة، ويتذبذب بين الابتعاد عن هذه الأشياء وبين الإفراط فيها. وقد صنف الاكتئاب كأثر مرض من العالم يؤثر على سيرورة حياة الانسان الطبيعية كدراسته وعمله وعلاقاته بل ويعطل سيرورة حياة الإنسان.

رغم كل هذه المعاناة الا أن أمراض الاكتئاب والمزاج وجل الأمراض النفسية يمكن أن تحل أو نخفف من أعراضها بالعلاج الدوائي والدعم النفسي، فنحن كأفراد وكمجتمعات نحتاج للوعي بوجود هذه الأمراض وبضرورة التوجه للعلاج فكلما كان العلاج أبكر في الأمراض النفسية كما العضوية كلما استطاع الانسان العودة لحياته الطبيعية أسرع. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.