شعار قسم مدونات

أيهما يسبق الأخر.. التمدن العمراني أم التمدن الحضاري؟

blogs مجتمع
لقد شهدت كثير من ربوع الأوطان، رواجا وازدهارا عمرانيا واسعا، لم تشهده البشرية قبل في تاريخها، فرغم أن الثقافة العمرانية اليونانية والبريطانية والفرنسية والإيطالية تركت بصمتها عبر الأزمنة كتراث عمراني امتد لقرون محافظا على لمسته الفنية والإبداعية والجمالية، لتأتي ثقافة عمرانية وتمدن من نوع أخر عنوانه التسارع في زمن عرف بالسرعة في الإنجاز والدقة في الرسم لتعبر بعد ذلك اللوحة الفنية العمرانية اليوم عن امتداد حديث في العمران لم تشهده الثقافات البنائية العمرانية السابقة.

ولعل أن الغريب في المشهدين بين عمران الأمس وعمران اليوم هو من يصنع هذا العمران والتمدن، لأن حقيقة وجود الجمال والإبداع والرسم الفني من حقيقة تواجد العنصر البشري الذي يعبر كل جزء منه عن معنى الفن والحضارة والإبداع بحيث يتناسق كل شيء مع ذاته في عالم يشهد وجود الجسم المعبر عن الإنسان وروح هذا الجسم المعبرة عن الفن بكل امتداداته، في المقابل برزت ثقافة فنية مصطنعة ليست من روح الفن ودلالات التطور والتمدن السليم، شهدتها كثير من بلدان العالم ونخص بذلك دوما من هم في ذيل الترتيب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والعمراني.

 

وليس بغريب أن نشهد في بلد واحد وجود تمدن لا نظير له من عمارات وناطحات سحاب وبناءات ضخمة وامتداد عمراني واسع لا تعبر عنه الحركات البشرية ولا النوتات الفنية ولا العلاقات الاجتماعية السائدة ولا التنظيم البشري الإنساني والحضاري، كل هذا جعل من المشهد كمن يسوق شاحنة صنف ثقيل وهو لا يمتلك إلا رخصة سياقة سيارة صنف خفيف.

  

لا يمكن لك أن تبني وتتمدن عمرانيا وحضاريا بينما لم تتقدم وتتمدن سلوكيا واجتماعيا لذا فإن حاجتنا اليوم هي من حاجة صناعة الثقافة وليس من حاجة الإتيان بالثقافة

بهكذا مثال صار هناك صدام عمراني فني، أثر على مجريات البيئة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية، بحيث تنتج في النهاية إنسان غير مماثل لبيئته، فنشهد من جهة امتدادا حضاريا وفنيا وعمرانيا كبيرا يقابله ترهل وانحطاط سلوكي وروحي وثقافي واجتماعي كبير في الوقت نفسه وهذا الأمر لا تقبله سنن التدافع الكوني ولا سنن التدافع الاجتماعي، لأن المطب الذي نعيشه اليوم هو من شاكلة هذا النوع ولقد عبر الأستاذ مالك بن نبئ عن هكذا فوضى قائلا إن الحياة ليست مسؤولة عن النتائج السليبة التي تقع وإنما هذه النتائج تقع وفقا لمسبباتها .

فالفوضى والتخلف والانحطاط الموجود في الأفق والأرجاء يعبر عن مستوى تلك العقول السائدة ومستوى ثقافتها ومدى عمق روحها الفنية والعمرانية، لذا لا يمكن لك في أي وقت من الأوقات التغني بثقافات غيرك وفنون من سواك بل يجب عليك أن تصنع لوحتك وفق متطلبات حاضرك ونوتات تاريخك وماضيك ورؤى مستقبلك، لكي تتجنب في النهاية الصدمات التي ستقسم شخصيتك وتاريخك وثقافتك، لأن الحقيقة المطلقة التي نعيشها اليوم لم يعشها سلفنا وأجدادنا بامتثالهم لثقافات غيرهم وفنون الأخرين حتى نشهد الأن صورة ومشهدا غير متناسق الألوان.

فإذا ما كانت اللوحة الفنية تحتاج نوعا من التزييت فكذلك اللوحة والتركيبة البشرية تحتاج نوعا من الرعاية والترشيد والتوجيه ولقد لفت انتباهي في هذا الموضوع ما مر على الرسام العالمي بابلو بيكاسو وهو يرسم أحد اللوحات الفنية التي طلب منه رسمها من امرأة أعجبت بفنه، غير أن المرأة تفاجأت لأن لوحتها كانت جاهزة في غضون دقائق وسعرها لم يعبر عن مدة إنجازها فقالت لبيكاسو إن سعر اللوحة لا يعبر عن ما قمت به من مجهود فأجابها قائلا إن النقود التي ستدفعينها هي نقود 25 سنة من التعلم والجهد وليست جهد هذه الدقائق التي رسمت فيها هذه اللوحة .

إن هذه القصة تحكي نقيض ما نعيشه اليوم، فلا يمكن لك أن تبني وتتمدن عمرانيا وحضاريا بينما لم تتقدم وتتمدن سلوكيا واجتماعيا لذا فإن حاجتنا اليوم هي من حاجة صناعة الثقافة وليس من حاجة الإتيان بالثقافة، وبناء الأشياء ليس تكديسها، هنا فقط ستشهد تناسقا عجيبا بين ما تعيشه وما تقدمه من سلوكيات وردود أفعال وحركات، كما يلاحظ الملاحظ التناسق الرائع في اللوحات الفنية المعبرة عن كل طيف في مكانه وشكل بعنوانه لتعبر عن لوحة روحها من روح من رسمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.