شعار قسم مدونات

عندما يكون الفنان مجنونا.. "فان جوخ" نموذجا

blogs فان جوخ
كيف للفنان أن يكون مجنونا؟ ربما سيتبادر إلى ذهنك هذا السؤال مباشرة عند قراءتك للعنوان. من طبيعة المجتمعات الإنسانية هي سعيها الدائم وراء رسم الحدود، وإنشاء القيود لأنفسها، تحت مسميات عدة (القوانين، الأحكام، الأعراف…)، اعتقادا منها أن هذه القواعد ضرورة استوجبتها طبيعة الإنسان، وحاجته للعيش في كنف المجموعة. وبما أن عالم الفن هو عبارة عن مساحة إبداعية، خالية من كل الحدود والقيود، فقد أصبح غالبا ما يربط بين الفنان المبدع والجنون أو المرض العقلي (الفصام التوحد الاكتئاب…)، ومن هنا باتت علاقة الإبداع بالخلل العقلي موضوعا دسما لعشرات آلاف الدراسات في علم النفس.

على مر العقود كانت هذه الثنائية حاضرة في عدد ضخم من المبدعين، الذين أنهوا حياتهم بأنفسهم، رسامون، شعراء، كتاب.. انتحروا بعد حياة متأرجحة بين أبهى تجليات الإبداع والجنون، لعل أبرز هؤلاء هو "فنسنت فان جوخ" الرسام الهولندي (1853-1890)، الاسم العظيم في عالم الفن التشكيلي، الذي تمكن من تخليد اسمه، والفوز باحترام وتقدير رواد ونقاد الفن التشكيلي، الأمر الذي جعل أعماله تعرض إلى يومنا هذا في أبرز المتاحف، وتباع بمبالغ طائلة، لكن خلف كل هذا الإبداع والتميز، حياة تعيسة بائسة، خاض ضدها "فان جوخ" معارك عديدة، انتهت باستسلامه (29 يوليو 1890).

ولد "فنسنت" في قرية هولندية ريفية سنة 1853 سبق ولادته بسنة واحدة إنجاب أمه لطفل ميت، يحمل نفس اسمه، كانت هذه أول صدمة نفسية يتلقاها، كونه كان بديل لأخ، وخاصة عندما كان يمر من أمام مقبرة البلدة، وهو يحدق بقبر صغير يشاركه نفس الاسم واللقب.
  

بعد تدهور حالته النفسية، اضطر "تيو" لأن ينقل أخيه لمستشفى الأمراض العقلية، هناك حيث تمكن "فنسنت" من مزاولة الرسم، وخلال وجوده في المشفى رسم أعظم أعماله وهي "ليلة النجوم"

كان أول لقاء "لفنسنت" بعالم الفن عندما بدأ العمل كبائع للأعمال واللوحات الفنية بشركة عمه "سنت"، أبدى "فان جوخ" اهتماما كبيرا بالفن التشكيلي، وتحمس لبعض الأعمال والفنانين، ونظرا لنجاحه قررت الشركة إرساله إلى فرع لندن. استمر نجاح "فنسنت" في عمله إلى أن – لسوء حضه – وقع في حب سيدة تدعى "يوجيني"، إلا أنها لم تكن تبادله نفس الشعور، بل وصدته بخشونة عندما اعترف لها بحبه، وتحت تأثير انكساره العاطفي وإحساسه بالوحدة، أصاب "فان جوخ" حالة من الهوس الديني، أصبح يمضي جل ساعات يومه في قراءة الإنجيل، ومطالعة الكتب الدينية، ودراسة العلوم اللاهوتية، فبالرغم من نشأته في عائلة دينية، إلا أنه لم يبدأ بتكريس حياته إلى الكنيسة بجدية إلا عند هذا الوقت، أصبح يبتعد تدريجيا عن عالم الفن مما جعل الشركة تعيده إلى باريس، حيث تدهورت حالته النفسية أكثر.

بحلول عام 1877 عاد إلى هولندا، محاولا الالتحاق بجامعة اللاهوت بأمستردام، لكنه رفض وبعد فترة وجيزة أوصته الكنيسة بالذهاب إلى إحدى قرى التنقيب عن الفحم في بلجيكا، للعمل كواعظ. شعر "فنسنت" بارتباط عاطفي قوي نحو العمال، تعاطف مع أوضاعهم المزرية، شاركهم أسلوب حياتهم، أعطاهم كل ما يملك من مال وملبس وطعام، وبالرغم من نواياه الشريفة، إلا أن الكنيسة رفضت زهده المفرط وقامت بطرده.

ضاق "فنسنت" بالفشل ذرعا، لكنه لم يستسلم، فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة ببروكسل، لبدء دراسته الفنية، نتيجة العون المادي من أخيه "تيو"، كان "فنسنت" قريب جدا من أخيه الأصغر، ولعل تلك الرسائل التي كانا يرسلان بيها بعضهم البعض، تعكس مدى تعلقهما ببعضهما، ومع مرور الوقت ازداد حماس "فان جوخ" لتعلم الفن، وأصبح يجول بين المدن الأوروبية، للاستفادة من الفنانين التشكيلين، وتعلم مختلف التقنيات المعتمدة، كفن التشريح والاستنساخ، أصبحت لوحات "فان جوخ" تتزايد شيئا فشيئا، كان يرسم بدون كلل، كانت لوحاته في هذه الفترة، حزينة، قاتمة، فقد دأب على رسم الفلاحين وعمال المناجم البؤساء مثله، وهي نتيجة طبيعية لما مر بيه، وتمكن من إنتاج أولى لوحاته العظيمة وهي "أكلوا البطاطا"، التي أثبت "فنسنت" بيها لنفسه، أنه ولد ليكون رساما.

في 1886 انتقل "فان جوخ" للإقامة مع أخيه "تيو" في باريس، كانت العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت مركزا للفن في العالم، ومنبع الحركة الانطباعية، تأثر "فنسنت" بهذه الحركة، وقابل معظم روادها "ككلود منييه" و "بول جوجان"، وأصبح لاحقا واحد من أهم منتسبيها، رسم "فان جوخ" خلال إقامته في باريس أكثر من مائتي لوحة في سنتين، كانت مرحلة باريس من أهم مراحل تطور "فنسنت" الفنية، لكن عدم تعوده على مناخها البارد، ولونها القاتم، جعله ينتقل إلى "أرل" في الجنوب الفرنسي، لكن ليس وحده هذه المرة، فقد دعا زميله الفنان "بول جوجان" للعيش معه، فقد كان بحاجة لرفيق يرسم معه، ويناقشه الأفكار حول الفن، كما كان يحلم بإنشاء رابطة للفنانين، لكن بقدوم "جوجان" توالت المشاكل والمتاعب، بسبب طبائعهما المختلفة، وتباين وجهات النظر، انتهت شراكتهما الفنية سريعا، أدت هذه القطيعة إلى دخول "فنسنت" في مرحلة من المعاناة النفسية والجسدية، وفي إحدى حالات هيجانه الجنوني، قام بقطع جزء من أذنه، وأعطاها لبائعة هوى كان يتردد عليها.

لوحة فان جوخ.. ليلة مرصعة بالنجوم على نهر الرون (مواقع التواصل)
لوحة فان جوخ.. ليلة مرصعة بالنجوم على نهر الرون (مواقع التواصل)

بعد تدهور حالته النفسية، اضطر "تيو" لأن ينقل أخيه لمستشفى الأمراض العقلية، هناك حيث تمكن "فنسنت" من مزاولة الرسم، وخلال وجوده في المشفى رسم أعظم أعماله وهي "ليلة النجوم". لم ينجح العلاج النفسي مع "فان جوخ"، بل زادت نوبات الصرع وأصبح أكثر تعاسة. وفي إحدى أيام صيف 1890 أطلق الفنان الهولندي رصاصة استقرت في صدره، في حقل يقع قرب العاصمة الفرنسية باريس، بعد أن ترك رسالته الأخيرة إلى أخيه "تيو".

مات "فنسنت فان جوخ" في السابعة والثلاثين من عمره، لم يستطع المقاومة أكثر أمام هذه الحياة، حياة جعلته فقيرا، تعيسا، معدما، منكسر القلب، فقرر اختصار الطريق، ذهب الجسد وظل اسم خالد في عالم الفن التشكيلي، وبقيت أعماله في منتهى العظمة.

بدون شك إن الاختلال النفسي يجعل المبدع فاشلا في المجتمع، وفي علاقته بالأخر، لكن ناجحا على صعيد أخر، ففشل "فان جوخ" في التأقلم مع أفراد المجتمع، جعله يثبت نفسه في مجال أخر، ويتفوق في عالم الفن التشكيلي، ليعوض عن النقص الذي يشعر به، فلا يمكننا أن ننكر إذا وجود رابط حقيقي بين الجنون والإبداع، فكيف لنا أن نفسر حينها حالات الاكتئاب والميول الانتحارية "لفرجينيا وولف"، ونوبات الصرع المرعبة "لدوستيوفسكي"، وحالات القلق والحزن العميق "لبيتهوفن"، والهيجان الجنوني الذي يعصف بعقل "نيتشه"، ووحدة وعزلة "فريدا"، وحياة المجانين التي عاشها "قيس". الجنون هو الذي يصنع المبدع، والإبداع هو الذي يشفيه".."أندريه موروا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.