لندع جانباً التعميم ولنتحدث عن اللاجئين السوريين بالتحديد، ومن ضمنهم بطبيعة الحال الفلسطينيين السوريين. ذلك أن اللاجئين السوريين هم الأكثر عدداً ضمن موجة اللجوء الكبرى التي اندفعت بقوة نحو القارة الأوروبية في السنوات القليلة الماضية. والسوريون في معظمهم ثلاثة أصناف. الصنف الأول هم اللاجئون الآن في البلدان التي وصلوها كمحطة أخيرة في رحلة الفرار. والصنف الثاني هم اللاجئون العالقون في منتصف الطريق بين وطنهم الذي فروا منه والأوطان التي يريدون الوصول إليها. أما الصنف الثالث فهم اللاجئون المحتملون، أي أولئك الذين لا يزالون في وطنهم، راضين أو مرغمين، لكنهم قد يتحولون فجأة إلى لاجئين نشطين يسلكون دروب من سبقهم. قد تقتلعهم الحرب التي لا تزال نارها تستعر من جديد كلما خبت قليلاً. وهي حرب لا تبدو لها نهاية وشيكة. فالطرفان اللذان تسببا باندلاعها لا يزالان على حالهما من العناد. ما زال كلّ منهما متمسّك بموقفه.
اللاجئون طبقات أيضاً بحسب دول اللجوء المختلفة. فاللاجئ في السويد يختلف عن اللاجئ قسراً في اليونان. واللاجئ في الدانمارك يختلف «طبقياً» عن اللاجئ في هنغاريا |
الطرف الأول شعب عجيب استفاق بعد نصف قرن من السكينة والسبات ولم يتوان عن المطالبة بحقّ له ظنّ ولا يزال أنه حقّ طبيعي ولا يسقط بالتقادم. حقه في أن يمشي على وجه الأرض مشياً طبيعياً مستقيم الظهر كبقية الخلق بعد أن ظلّ يسير محني الظهر قليلاً، بصره منكبّ على الأرض كأنه سعيد أبي النحس المتشائل. كأنه كان يخشى أن يرفع رأسه ويجيل بصره في العالم من حوله فيدرك مدى بؤسه وانحطاط حاله. أما الطرف الآخر فهو «الرئيس» المفترض لذلك الشعب المنكوب، والذي لم يتأخر في الردّ فجمع «مجلس شعبه» وقال كلاماً كثيراً غير مفهوم في معظمه، باستثناء جملة واحدة شديدة الوضوح: إذا كانوا يريدون الحرب فأهلاً وسهلاً. بعد ذلك أطلق النار ولا يزال يطلقها هو والمرتزقة الذين استدعاهم لمساعدته في إطلاق النار وإلقاء البراميل والصواريخ على "شعبه". هذا هو مختصر الحكاية لمن لا يحب الإطالة. وكل إطالة بعدها زائدة عن أصل الحكاية.
وهكذا أصبح هناك لاجئون سوريون ضاقت بهم الأرض واكتظت بهم الطرقات. ضاق بهم الناس في دول الجوار، بعد ترحاب قصير، وضاقوا هم بأنفسهم. وحين وارب الأوروبيون أبوابهم قليلاً اندفعنا نحوهم ودخلنا عليهم من كل باب ونافذة، وعبر الفجوات في أسلاك الحدود الشائكة. عبرنا البحر فوصل معظمنا وغرق بعضنا. أخذنا صور «السيلفي» مبتسمين عند الشواطئ ومن خلفنا البحر وسترات النجاة البرتقالية المتناثرة والقوارب المطاطية المتهالكة فملأت صورنا شاشات العالم وأوراق صحفه. كسرنا الصورة النمطية. صورة اللاجئ الخائف والمكسور. استبدلناها بصورة اللاجئ الفرح بنجاته من مصيدة ومقبرة كان يسمّيها وطناً. قلنا بالصوت والصورة أننا نحبّ الحياة، ولا نريد سوى أن نعيش.
أما القسم الآخر منا، الطبقة الأخرى، فقد جاءوا بالطائرات والقوارب السياحية. وصلوا بثياب أنيقة وحقائب ثمينة. لم يسيروا في حقول البلقان الموحلة ولم تنهش وجوههم لفحات البرد القارس ولم ينهرهم حرس الحدود. اختاروا الدول التي يريدونها بعناية ووصلوها سالمين. لم يخالطوا الطبقة الأولى في بيوت الهجرة، ولم يزاحموهم على حصص الطعام. كأنما كل شيء كان معداً لاستقبالهم. فبعد المرور السريع على قسم الاستقبال في دائرة الهجرة، أقاموا في شقق ومنازل خاصة واقتنوا سيارات. اللهم لا حسد.
هاتان طبقتان في دولة اللجوء الواحدة، لكن اللاجئين طبقات أيضاً بحسب دول اللجوء المختلفة. فاللاجئ في السويد يختلف عن اللاجئ قسراً في اليونان. واللاجئ في الدانمارك يختلف «طبقياً» عن اللاجئ في هنغاريا. وهكذا دواليك. كلنا لاجئون. لكن قل لي أي طريق سلكت، أقل لك من أي طبقة أنت. كلنا لاجئون فارون من وطن نحبه ويكرهنا. عالقون هنا في شباكٍ لا فكاك منها. عالقون في مكابدة السؤال الذي لا ينام: هل نعود؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.