شعار قسم مدونات

هويتنا والكذبة الزرقاء.. كيف قادتنا وسائل التواصل إلى الاكتئاب؟

مدونات - رجل

لا خلاف أبدًا على أن الازدواجية والادعاء هما أهم أمراض الحقبة الفيسبوكية (Facebook era)، فلنتفق أولًا على السبب، لماذا تعد تلك الأمراض هي أهم أمراض الحقبة الفيسبوكية!؟ ذلك لأن المجتمع الفيسبوكي العربي تحول إلى مجتمع يغلب عليه الوهم المتمثل في ادعاء المثالية! حيث كل البشر مثاليون حكماء لا يخطؤون، حتى وإن كان البعض كذلك بالفعل تظل الصورة المنعكسة لهم صورة مجتزأة غير كاملة فذلك الجانب المثالي هو فقط ما يظهر من شخصياتهم بينما يختفي الجانب المنقوص خلف الكلمات المنمقة والشعارات الخلابة!

  
قد يصاب بعضًا من المتابعين لما نكتبه بالضيق نتيجة استمرار مقارنة مثاليتنا الواهية البادية والمنعكسة من خلال كتاباتنا بنواقصهم المتعددة فيلجؤون إلى الازدواجية والادعاء دون وعي منهم، فقط لأنهم لا يدركون حقيقتنا الكاملة.. فيشعرون بشعور ضاغط يدفعهم إلى استجداء بعض النشوة وإن كانت خادعة. وهكذا تتولد متتالية من الادعاءات لمحاكاة ما يستحيل الحصول عليه في الواقع الملموس ويتحول ذلك السلوك مع الوقت إلى نوع من الإدمان نظرًا لما يتركه ذلك من أثر وهمي ممتع على النفس! كمن كذب الكذبة فصدقها وعاشها ثم جاهدَ فمات في سبيلها!

 
نحن لن نستطيع تغيير الآخرين، ولكننا بحاجة إلى إدراك تلك الحقائق لما تشكله من خطر بالغ في تقبل أنفسنا وإدراك عيوبنا وحل مشاكلنا؛ فاستمرار وجودنا داخل تلك الفقاعة المثالية الخادعة يقودنا بالتدريج إلى عتبات الاكتئاب وكثير من المشاكل النفسية الأخرى بسبب الاستمرار -لا إراديا- في مقارنة حالتك بكل ما يحيط بك في عالم افتراضي ممتلئ بالأكاذيب الزرقاء!

 

الأقوال المأثورة  المنتشرة على مواقع التواصل كما النار في الهشيم.. تتسبب في هدم بيوت حرفيًا! هدمت علاقات راقية جدًا بسبب ذلك السحر وتلك الشعوذة الفيسبوكية

إن ملاحظة عيوب من يحيطون بنا تساعدنا في تقبل عيوبنا الشخصية، ومعايشة مشاكلهم تساعدنا كذلك على تحمل مشاكلنا الشخصية، لذا فالتواجد المستمر على الأرض الزرقاء حيث كل شيء يظهر بشكل مثالي يصل إلى درجة الكمال.. يؤدي بكل تأكيد إلى التسبب في خلل نفسي يعود عليك بمشاعر الحزن، أو القلق أو الغضب أو الانسحاب.. بل وقد يؤدي ببعض ضعاف النفوس إلى الاقدام على القيام بأفعال مشينة وتصرفات غير أخلاقية بل وأحيانًا جرائم في سبيل الوصول إلى ذلك الكمال الواهي الأجوف من الصدق!

 
إن التفاعل المستمر خلف ستار مادي حقيقيٍ متين، يمنع الأطراف الأخرى من استيضاح حقيقة المتفاعل، هو عامل خطير يؤثر على ضعاف النفوس ويجعل منهم مصادر خطر لا محدودة على أنفسهم وعلى الآخرين، عدم الكشف عن حقيقة الشخصية واختفاء الصوت أو الهيئة أو المظهر أو لغة الجسد كلها مغريات تساعد على التمادي في الكذب والادعاء بهدف الوصول إلى حالة من التعويض النفسي لما يعاني منه الإنسان من نقصٍ أو حرمان!

 
حالات خيانة واستغلال وممارسات شاذة وجرائم ابتزاز وتجسس ونصب وسرقة وبرمجة دماغية ولجان الكترونية تسيطر على العقول وغيرها العديد من ملامح الوجه الآخر لمواقع التواصل، إضافةً إلى الكثير من الشعارات الجذابة والخلابة التي تسلب الألباب.. وما من أحدٍ يدرك ما تذخر به العقول المدبرة خلف تلك الشاشات ولا مصدر تلك الأصابع التي تنقر على لوحة المفاتيح جرعاتٍ من السم في العسل! 

 
هي الجريمة الكاملة كما يجب أن تكون! هي صورة كاملة لكل ما يحدث على أرض الواقع من جرائم وسلوكيات غير سوية ولكن من وراء حجاب، والذي يرفع بدوره كثيرًا من الحدود التي كانت لتمنع حدوث تلك الممارسات على أرض الواقع في الظروف العادية، فيتفشى السلوك السلبي بل ويتطور ليصبح أشد قوة وأكثر شراسة ..

 
أمر آخر علينا الانتباه له، هو تلك المقتطفات أو الأقوال المأثورة quotes المنتشرة على مواقع التواصل كما النار في الهشيم.. والتي تسببت في هدم بيوت حرفيًا! هدمت علاقات راقية جدًا بسبب ذلك السحر وتلك الشعوذة الفيسبوكية.. إن معظم ما يتم تداوله من تعميمات بالية موجهة على فيسبوك لا يخرج عن حالتين: إما اقتباس من رواية أو كتاب اجتُزأت عن سياقه ليتحول إلى قاعدة أو مسلّمة على لسان كاتبها وهو من ذلك برئ! وإما تجربة شخصية لم يستطع من مر بها التغلب على آثارها فأصبح ينفث سُمُّ مشاعره السلبية بين الناس، وقد ساعد فيسبوك على انتشار ذلك بغزارة!

  undefined

 

وعليه؛ فالوعي لهذا الأمر مطلوب لتجنب الوقوع في براثن ذلك السحر الأزرق الذي يسيطر على نفس تمر بأزمة ما فتكون لها كالدليل والمنقذ وما هو سوى ضلال في ضلال. ولكي نقي أنفسنا من أمراض الازدواجية والادعاء علينا أن نؤمن بأننا بشر وصفة البشر هي عدم الكمال أي أن جميعنا وبلا استثناء يعاني من نقص ما وما الكمال إلا صفة لله وحده، علينا كذلك ألا نخجل أو نرتاب من ظهور تلك النواقص للغير في مجتمع فيسبوكي يقود إلى ذلك بإصراره على أن لا مكان لمن ليس كاملًا! كذلك علينا أن ندرك أن أولئك المثاليون ظاهريًا هم أيضًا بشر لذلك فهم كذلك ناقصون غير مثاليين.. ولكنهم لا يظهرون ذلك، وفي الحقيقة هم غير مضطرين أو مجبرين على إظهاره. وإنما لا يتطلب الأمر منّا سوى إدراكه.

 
عليك أيضًا أن لا تنتظر حكم الآخرين عليك من خلال كلماتك، فيجب أن ندرك جيدًا بل أن نؤمن بأنفسنا دون انتظار آراء الآخرين. يجب أن نكون ناضجين بالقدر الكافي لأن نعي بأن ما يسجله الاخرون من حالاتٍ على الجدار الأزرق ليس بالضرورة أن يمثل حالتهم النفسية أو العاطفية أو الإيمانية.. إلى آخره.. وإن صدق فهو وقتي أو لحظي ولا يعكس حياةً بأكملها! تلك الابتسامة الواسعة المبهجة التي تم نشرها في صورة شخصية ليست سوى وليدة لحظة.. ما من أحدٍ يستطيع أن يصل إلى ما تلاها أو ما سبقها! ليس من المنطقي أبدًا اختصار حياةً كاملةً لشخص في صورة أو خاطرة أو مقالة أو بضع كلماتٍ قد لا يكون لها وزن حقيقيٌ! وعليه فلا داعي لأن تتقمص حالة ليست حقيقتك بهدف مجاراة الجو العام!

  undefined

 

إن لم تكن لديك هوية واضحة وشخصية محددة الأبعاد فابتعد عن هذا المجال الأزرق، لأنك ستلجأ إلى الازدواجية والادعاء لتجد مكانًا لك! إن تكن على حقيقتك مختلة الكمال، لهو أفضل كثيرًا من أن تتعرى حقيقة كذبك ونفاقك مع الوقت. عليك بالاختلاء بنفسك بين حين وآخر لتتأكد بأن شخصيتك لم تتأثر بالجو العام لذلك الكوكب ..كن نفسك باختصار شديد.. كن نفسك ولا تخجل من أن يكون لك رأيٌ مخالف وإن خالفك به الجميع. إذا ما واجهت نفسك فوجدت فيها من ذلك أمرًا فتقبل ذاتك.. وتذكر أنك كيان مختلف عن أي إنسان آخر، أنت إنسان لديك بالضرورة ما يميزك عن الآخرين.. هكذا خلقنا الله شعوبًا وقبائل، فقط عليك اكتشاف ما يميزك، واعمل على تعزيزه..

ابتعد عن فيسبوك وما يشبهه أيضًا حتى في المجتمعات الواقعية إذا ما وجدت في نفسك أيًا من أعراض الازدواجية أو الادعاء، إذا ما أدركت أنك تضطر إلى أن تكون إنسان آخر لا يمثلك في شيء فقط إرضاءً للآخرين، أو لكي تلفت انتباههم لوجودك. حدد أهداف يسهل تحقيقها على المدى القصير، فذلك يستجلب الشعور بالإنجاز وهو شعور ضروري للوصول إلى حالة من الرضا عن النفس.. وسيساعدك في استعادة ثقتك بنفسك، واعتزازك بذاتك.
 

اقترب أكثر من الواقع.. واخرج من الصندوق الذي قيدت به ذاتك.. تحرر من تلك القيود وبسرعة. قم باستكشاف نفسك من جديد، فكل يومٍ جديد هو بداية جديدة، بل إن كل لحظة مضت قد تحولت إلى تاريخ، إبدأ مراراً حتى تصادف البداية الصحيحة. وامضي وقتًا أكبر في أن تقرأ وتنصت وتتأمل كل ما هو حولك.. خذ هدنة من إبداء الرأي والجدال، وترفع بعض الوقت عن الحديث. تذكر أن وسائل التواصل الاجتماعي ما هي إلا مجرد أدوات للتواصل، وعليه فهي لا تشكل أي مصدر يساعد في تحديد هويتك أو هوية أيًا ممن تتفاعل معهم، قاوم إغراء تلك المجتمعات وانصهارك بها، تماسك.. فإن لك كيانك المستقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.