شعار قسم مدونات

عن الخوف والعزلة.. والطمأنينة والنور

مدونات - العزلة وحيد خوف

يحدث في هذه الحياة أن تجد نفسك على شريط ضيق جدا، يفصل قدرين، وأنت واقف عليه تلتفت تارة فترى عتبات الحلم ثم تلتفت أخرى فتنتبه أنك على شفى هاوية من الجحيم، من الباب الموارب للحلم يتسرب نور ساحر يغريك، ومن الحفرة أسفل تبلغك لفحات لهيب ترعبك.
   
يكون أمامك نظريا خياران، لكنك في الحقيقة تعرف أنه لا يمكنك الرجوع خطوة للوراء: السقوط من هذا الارتفاع الشاهق الى ذلك القاع المستعر يعني أن تتفرج على عقلك وقلبك وهما يتهشمان.. ثم يتناثران.. لتلتقطهما ألسنة اللهب تحرقهما أمام ناظريك.. حتى يستحيلا رمادا، لكنك هناك في كامل وعيك وأنت تشاهد.. تتنفس.. وسيكون عليك أن تتنفس.. إلى ما شاء الله. أما باب النور فيفتح على أرض خضراء.. لكنها تبدو بعيدة.. بعيدة جدا، وبين العتبة وذلك المكان الكثير الكثير من الهوة والفراغ، للوصول تحتاج طريقا، ولا رسم لطريق تمر هنا، وان شئت الوصول عليك أن تعبد طريقك وحدك.. عليك أن تصنع طريقا من اللاملموس..
   
انتبهت قبل فترة وجيزة فقط أن تعبير "القطيع" لا يحمل بالضرورة الدلالة السلبية التي ألصقت به، انتبهت أن "العيش ضمن القطيع" بالمعنى الحرفي لا الاصطلاحي للجملة عادة بشرية تؤمن للإنسان حاجته من الأمان والطمأنينة والأنس وربما حتى السعادة، وأن الخروج عن القطيع عادة ما يدخل الانسان في متاهات من الخوف والتوجس والاغتراب.
   

أتساءل حقا حين يكون المرء ممددا في لحظة المنية بأيهما سيكترث أكثر "كم عاش سعيدا" أم "كم كان قويا"؟

يحدث أن يكون للمرء رؤية وغاية استثنائية، سامية ونبيلة تقتضي أن يستقل بنفسه عن القطيع الذي نشأ فيه وأن يبدأ بشق درب جديد تصل به لأرض أخرى، قد تكون أسست قبله لكن من يسكنونها على قلتهم وغربتهم يشبهونه أكثر ممن نشأ فيهم، وقد يؤسس هو نفسه وطنا أو "مستوطنة" يكون المهندس الأول لمعالمها، ثم تكون هي بحد ذاتها بؤرة جذب جديدة تقدم قراءة مختلفة لمعطيات هذا الكون علميا أو أخلاقيا أو عقائديا أو ابداعيا أو إنسانيا أو غير ذلك..
    
قد ينجح المرء في رحلته الخاصة تلك ليصنع معلما، حصنا.. يشكل نقطة النظام والنور وسط تدافع القطيع في الظلمة وهي نتيجة تستحق العناء، لكن الثمن المسدد يتعلق أيضا بالمسافة والزمن الذي نقضيه بين نقطتي الانطلاق والوصول، الوصول المبدئي لنقل، لأن حياة هذا النوع من الناس تكون رحلة دائمة تواصل عطاءها حتى بعد الموت.
 
عادة ما ينقسم السائرون في هذا الطريق الى قسمين، قسم أول يجد اتجاهاته سريعا، وهم عادة الأشخاص الذين وجدوا في محيطهم القريب من تكفل بحمل المشكاة لهم، من دلهم على الدرب، من سبقهم في الطريق أو ساعد في تعبيده لهم، من دعمهم وأعانهم للمضي فيه، من أنار لهم الرؤية باكرا والأهم من ذلك من أعطاهم الحرية كاملة لشق الطريق الذي أرادوه…
 
وهناك.. المعذبون في الأرض.. الذين كتب عليهم أن يتيهوا في الظلمة عمرا، الذين يأتون للحياة وهناك من قرر مسبقا (بغض النظر عن حسن نيته) تحديد الطريق التي عليهم طوعا أو كرها أن يمشوها.. هؤلاء الذين يستنزفون قبل وصولهم لنقطة البداية سنوات بين استكشاف الطريق التي فرضت عليهم وأخذ قرار أنهم يرفضونها، ثم سنوات في معارك مع راسم الطريق وكل من حولهم ممن يؤمن ايمانا مستميتا أنه الطريق الصالح الوحيد، وسنوات أخرى في استكشاف مساحات الحياة خارج ما كان مفروضا، وأخيرا وليس آخرا زمنا متقلبين بين خيبات بدايات كثيرة تشير في كل مرة الى أن هذا الاتجاه وذاك لا يوصل حيث يريدون.. هؤلاء يمضون في الحياة تتربص بهم ندوب الماضي وتوهنهم رعشة الخوف من القادم.. أن تقرر في لحظة احراق كل شيء خلفك للمضي نحو المجهول بحثا عن مكان قد يطول الوصول اليه، وقد.. قد لا تصل اليه أبدا.. أو تصل اليه متأخرا جدا..
 

أهم ما تعلمته هو أن السعادة قرار إن أجلته لم يأت أبدا، وأولى ما في الحياة بسعادتك ورضاك الخير الذي يبزغ بداخلك
أهم ما تعلمته هو أن السعادة قرار إن أجلته لم يأت أبدا، وأولى ما في الحياة بسعادتك ورضاك الخير الذي يبزغ بداخلك

علم النفس وسير التاريخ تقول أن أغلب عظماء البشرية كانوا من هذا الصنف الثاني، قسوة الدرب تصقل وتغني وتشد الهمة والبأس، لكني أتساءل حقا حين يكون المرء ممددا في لحظة المنية بأيهما سيكترث أكثر "كم عاش سعيدا" أم "كم كان قويا"؟، يخطر ببالي أني لو خيرت لاخترت أن أكون من الصنف الأول -على اعتبار أن أمر السير في طمأنينة القطيع يبدو ترفا مستحيلا لشخصيات مثلي-.
   
جل الكلام الذي فوق كنت قد كتبته قبل مدة، وكتبت في خلاصته "لو كتب لي أن أختار لما كنت اخترت القوة الخرافية التي يبلغها المرء بعد أن يقضي نصف عمره في دروب التيه والألم سعيا لسعادة مؤجلة قد لا تأتي.. الحياة أقصر من ذلك وأطول من أن نتحمل فيها كل هذه الخيبة والمرار..".
 
أما اليوم.. اليوم وقد تمكنت من النظر في أعماقي عبر شقوق الجراح التي تسرب منها النور.. اليوم وأنا أكتشف نفسي وأكتشف الله والكون من جديد.. اليوم وأنا أنقي بصيرة تجعل الكثير مما حولي زجاجا يشف عما بجوفه.. ما زلت ماضية في رحلتي أتعثر.. أبحث.. أتساءل.. وأتعلم الكثير.. تنثرني الحيرة وتنهشني الظنون حينا ويفيض قلبي طمأنينة ونورا حينا آخر.. أما أهم ما تعلمته فهو أن السعادة قرار إن أجلته لم يأت أبدا، وأولى ما في الحياة بسعادتك ورضاك الخير الذي يبزغ بداخلك، الخير الذي يجب أن تسقيه وتربيه حتى يمتد حبل احسان لكل ما حولك.
   
وأسمى ما يمكنك بلوغه أن تجعل حبلك هذا يمتد حتى يبلغ من هو نور السماوات والأرض، فتصير قويا به، سعيدا به، راضيا به، عندها ترتسم دربك من اصطفاف نقاط ضوء تشكل كل منها محطة وصول صغير في مسارك الكبير وفاصل سعادة تقتات عليه الروح الى حين بلوغك الكبير.. وربما بهذا فقط تصير الرحلة درب رضى لا نفق عذاب للعبور الى المجهول. صعب جدا أعرف، أن نعيد تربية العقل والقلب والروح من جديد بعد كل هذا الزمن، لكن انتشال نفسك من العذاب مسؤوليتك وحدك وكل ما يفضي الى نجاتك يستحق العناء. أما ما أعتقد أنه يجدر بكل منا فعله أيا كانت الطريق التي اختار أو فرضت عليه، سوآءا بلغ أم لم يبلغ، فهو أن يكون هو نفسه مكرمة من حوله، بالذات أبناءه، والجسر الذي يختصر عليهم مرار الطريق..

 

لي.. ولكل واقف على الشريط الضيق.. حيث النار والنور.. "لا تسمح لصخب المحيطين أن يدفعك لرمي نفسك بالجحيم، ولا تقف على ناصية الحلم مطولا لتعابث العدم.. ابدأ.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.