شعار قسم مدونات

هل نؤرخ واقعنا بأيدينا أم نتركه في جحور الضب؟

مدونات - كتابة لابتوب قلم يكتب

تتطاول الأيام وتمضي السنون حدة ومضاء، وتعصف رياح الأحداث وتتلاطم أمواج النوازل على فلك الأمة كالجبال، وبين ذلك تجري ولا تكاد حتى تنيد في بحر لجي ولا يستبين لأبصرنا في دجاه للجودي طريق موصل عما قريب، فضلا عن الطريق اللاحب المستتب. ومع انسلاخ كل منا من مسؤوليته الفردية تجاه المجتمع، ومن مغبة ذلك، وإلقاء تلك المسؤولية على آخرين نقرعهم بتقصيرهم في حملها! حتى صارت الأمة مجموعة متنصلة من المسؤولية، تلقيها على آخرين، وتقرعهم بالتقصير! ولا أدريي من هم وأين وكيف هم هؤلاء الآخرين؟!

 

العجيب حقا -أن هذا الأمر يجري في تباين يفور بالمتناقضات، حيث مع تنصل الفرد منا الكلي من دور الفاعل في التأثير على مجرى الأحداث ولو في دائرة تأثيره- يتعاظم لديه الأنا والشعور المتوهم بمحوريته الفردية للدهر كله، ومحورية جماعته الآنية لغابر الأمم ولاحقها! فالفرد منا يظن ظنا دفينا في جنين أفكاره يقارب البداءة المسلمة عنده- بأن الأحداث تجرى تشريفا لوجوده وتزجية لوقته، حيث تصب أنهار التاريخ في أبحره، وسفن الغد تدفع أشرعتها رياح أنفاسه، غير أنه أسر إلى نفسه حديثا يفيد بأنه لا يملك تأثيرا في الأحداث! وطوى على ذلك صفحته، لكنه في ذات الوقت يتفصى بنفسه عن الحاضر المتردي، ويتفرقد بأمجاد غابرة ويستشرف فيرى بيارق النصر المقبل لا ترفعها إلا حوامله، وما رداءة الحاضر إلا حصاد ما زرعته يداه ويد أنداده، وما أرى أمجاد الماضي إلا لبست له رداء البراءة فهي تنأى بنفسها عنه وعن أمثاله، وحاشا أن يستنشي النصر المقبل جهد أقرانه.

 

ولعل ذلك المتواضع المتكئ على أناه اتكاء المختال الفخور -ينوه بوطء الدهر متثاقل الخطى على ما أنتجه السلف المتيقظ في باب التاريخ، وبما خلفه من إرث إلى الحفدة الذين ضرب على آذانهم في كهف الغفلة سنين عددا، وحينما تؤرق أناه غفلته فيفيق منها كسولا يتمطى فيشير ممتعضا "متواضعنا المغرور" بإصبع المطفف الذي يكتال على أسلافه فيستوفي ويكيل لأحفاده فيخسر، وإذا به يقلب في بضاعة كريمة ليست بضاعته المزجاة بقرن لإهابها الخارجي حتى ولا بنظير لقشورها المهملة -ها هو ينوه بحقبة كذا أو عصر كذا الذي لم يحظ بتوثيق تاريخي كاف فيقرع علماءه بتقصيرهم في استيعاب رصد أحداثه وسرد أيامه.

 

قد لا يعني شيئا تأريخ الأحداث لمن شهدها عيانا، غير أنه يعني كل شيء لمن لم يشهدها، أو لمن شهدها صغيرا لم يستوعبها، أو حتى شهدها بكامل عقله لكن متأثرا بتأثير السحرة ودجل المشعوذين

وحيث أن شعورنا بمحورية الكون والأحداث هو محض خطل وتبجح، وحيث أن اتخاذنا عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده بأن رايات النصر لن ترفعها إلا أيادينا هو محض ضلالة مضنية وكذب مصفى لا يشوبه ذرو من صدق، وحيث أن سنن الكون أمضاها الله تبعا لقانون الأخذ بالأسباب، وبالطبع لن يكسر الله ناموس الكون لمن لم يتبعوا سببا، وحيث أن النصر لا يصنع بين ليلة وضحاها فما هو إلا نتيجة لتراكم الجهود المخلصة وتضافرها، وحتى لا نكون من ذهل بأناه عن واقعه ومستقبله ومصيره، وعن حياة من يخلفونه، فضلا عن واقعهم ومستقبلهم ومصيرهم؛ ..فإني أدعو دعوة مغمور لا يؤبه لصدى نداه إلى "تأريخ الواقع"، ربما هذا مصطلح غريب، غير أني أقصد به: تأريخ الأحداث الكبيرة التي مرت بعالمنا حديثا، وأخص بالقصد (ثورات ما يعرف بالربيع العربي وتبعات ذلك).

 

وخليق بقارئ أن يسألني كيف ذلك وما زالت الجولة قائمة؟! وخليق بي أن أجيبه بأني أوافقه بأن الجولة لازالت قائمة، والحرب سجال.. ولكن ..لا تغرنكم سخونة الأحداث في نفوسكم وحضورها في أذهانكم الآن، فقد أصبحنا في زمان تأتى فيه الراجفة وما تكاد حتى تتبعها ألف رادفة فتنسينا كل لاحقة سابقتها، وأذكركم بحقيقة نذهل عنها دائما، ذكرها الأستاذ "محمد جلال كشك" في مقدمة كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" فيقول (تعتمد القوى المعادية على موسمية العمل الوطني، ودأب قوارضهم) فهل سنذهل عن تلك المهمة حتى تعمل قوارضهم العفنة على تأريخ تلك المرحلة البالغة الأهمية والتأثير في واقع الأمة ومستقبلها؟!

 

إن عمر الأحداث مرهون بتأريخها تأريخا جيدا منصفا، وإن التأريخ للواقع أضمن وأوثق من التأريخ للماضي. وحتى لا نترك الأجيال القادمة فريسة بين فكي الزيف والتلبيس، وتحت رحمة الصدمات في كشف الحقائق، فكم من حدث قريب لم يمط عنه لثام الزيف ليظهر خبأ الحقيقة المدفون إلا بعد جلاء حقبة أو قيام ثورة أو حتى وقوع هزيمة ونكبة، فتظهر الحقيقة بعد ذلك في رداء الحياء الممزق مشوهة بعد أن طمس معالمها كر الدهور وتكالب الصعاليك.

 

undefined

 

هل يليق بنا أن نترك الأجيال القادمة في جحور الضب الخربة ليرضعوا لبان الزيف منذ نعومة أظفارهم، يشبون يغذون من زقومه مكررا على اليفاعة، ويتجرعون كؤوسا من حميمه حتى يغور في أعماق أنفسهم أغوارا بعيدة ويتشعب في خصيب أفكارهم تشعب جذور النخيل، يطلى قلوبهم بسواد رانه، ويستقر في جوف عظامهم ليستأصل منهم كل سليقة نقية فطروا عليها؟! حتى إذا مردوا على الضلال ثقافة وفكرا ونهجا وظلوا عليها عاكفين وسلبهم إلف الزيف العقل والإحساس وأصبحت حياتهم ركاما من الأضاليل – أردنا إزهاق باطلهم وتقويض أصنامهم؟! فإنهم سيجالدون متأبطين زيفهم باستماتة ينافحون عنه، وإن تقويضها حينها لعقوبة مضنية وعملية جراحية مهلكة للروح والجسد حال الفشل، ولو نجحت فإنها تبقى جروحا نازفة لا يضمدها تقادم الأيام، بل تزكي جمرتها تكالب الصدمات وتطاير الحطام، وإنا إذا لحقيقون بالذم والمعابة.

 

نعم إن الجولة قائمة لم يسدل عليها ستار النهاية بعد، ولكن حتى الدقيقة الماضية هناك مشهد ماض مكتمل بأحداثه يصرخ ليتم تأريخه، فلا تعرف متى تكون الجولة المقبلة إن تعرقلت هذه أكثر. قد لا يعني شيئا تأريخ الأحداث لمن شهدها عيانا، غير أنه يعني كل شيء لمن لم يشهدها، أو لمن شهدها صغيرا لم يستوعبها، أو حتى شهدها بكامل عقله لكن متأثرا بتأثير السحرة ودجل المشعوذين، فإن أجيبت تلك الدعوة من أهل إجابتها نكون نجحنا في تمديد موسم "العمل الوطني" الذي يقصده كشك وفي إبادة جيل من قوارضهم العفنة وإبطال سحرهم.

 

أما من ينتظر نهاية الصراع فأخشى أن قوارضهم ستعبث بعظامه النخرة قبل أن يخط في تأريخ تلك الأحداث خطا. أظن -ولا أظن عاقلا سيخالفني الرأي-: أن واقعنا أهم وأكرم من أن يترك بلا تأريخ، أو أن يترك نهبا تجري عليه أيدي الصعاليك فيحظون بتزييفه بمكانة عند إبليس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.