شعار قسم مدونات

دورة حياة الفكرة.. أنا أفكر إذن أنا مستهدف!

blogs فكرة

في كل فكرة إصلاحية تجديدية تولد، تُزرَعُ في رحمها فكرة مضادة لها، مناقضة لها، متدافعة معها سواء كان التدافع ظاهرا جلياًّ أو خفيا مستَتِرا، يسعى فيه عرّابُو الفكرة المضادة إجهاض الفكرة المولودة الفتية، مستخدمين أدوات تتفاوت في الصحة والعقلانية والمشروعية والأخلاقية، وتلك سنة كونية ربانية في التدافع بين الحق والباطل قائمة إلى يوم القيامة، إنكار وجودها سذاجة، والإفراط في شرعنتها جريمة.

تظهر الفكرة الإصلاحية في واقع متغير شديد التحول، فتحفظ أمة من الإنحطاط وتمنع حضارة من الزوال وقت الانحدار، أو يكون من عظيم مهمتها ترجيح كفة الخير في أزمنة التوازن بين قوى الفساد وحملة مشروع الاستخلاف في الأرض، أو يكون من نصيبها حسم معركة الوصول للنصر والتمكين، والأرقى من ذلك أن تظهر وقت القوة لتراكم سير الحضارة المنتجة وتجدد دمائها وتديم وجودها وتضمن ديمومتها وتحافظ على سيادتها الشرعية الأخلاقية وقوتها السياسية والاقتصادية وبأسها العسكري والتكنولوجي.

في واقعنا رهين التحجر والجمود، تتشكل سيكولوجية البقاء في دائرة الراحة، والخوف من الجديد المحدث، وإيثار الموروث مهما كان باليا بعيدا عن الصواب، غير متماش مع تغيرات الواقع، وإلباسه من القدسية، وتحت كل ذلك نما سلوك أعداء الوعي ورافضي التجديد من المشككين المرجفين إلى المتطفلين مرورا بالحاسدين على مراحل ثلاث تمر فيها الفكرة وتلتقي فيها بالأصناف الثلاث وفقة تسلسل كرونولوجي دوري تعيشه الفكرة الجديدة:

1- مرحلة التشكيك
إن نجحت الفكرة الإصلاحية من مرحلة التشكيك وغرس الريبة تكون قد حمت نفسها من أول حاجز لبلوغ مقام التحقيق ومنعت الإجهاض عن ذاتها، لكنها تبقى بداية الطريق!

أول مرحلة تعيشها الفكرة عند ميلادها هي مرحلة التشكيك، يتم فيها الاستهزاء بالفكرة الجديدة الإصلاحية والإنقاص من مكانتها عند سدنة الظلم والفساد، والتقليل من إمكانية تغييرها للواقع وتحيينه عند المخلصين المتوقفين عن الحركة، فيكون مخ التعامل مع الفكرة الإصلاحية في مرحلتها الابتدائية هذه تسليط الضوء على مواطن ضعفها ومواضع تقصيرها ومواقف إفشالها في حالة المجتمعات المريضة التي لا تؤمن بمكانة الأفكار وقيمتها. أما في المجتمعات الطوّافة حول الأفكار فتجري مراسيم إجهاض الفكرة بتسويق الفكرة النقيضة المضادة.

وإسقاطات هذه المرحلة على واقعنا حاضرا أو ماضيا متعددة بداية من سيرة المصطفى العدنان، بظهور فكرة التوحيد كانت ردة فعل قريش الاستهزاء من فكرة التوحيد التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته ابتداء للتخلي عليها لعدم عقلانيتها بالنسبة للموروث الثقافي الديني الشعبي -الفاسد- ورحزت قواها وجبروتها وإعلامها لإجهاض الفكرة المجددة لأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المهددة لعروش الفساد والاستبداد والاستعباد.

ولها أيضا مثال في الحركات التجديدية الكبرى في القرون المتعاقبة ومما لقيه الأئمة المجددون من لهيب الظلم ونقض الأفكار، وتعتبر الثورات أفكار إصلاحية للواقع سواء كانت لتحرير الأوطان والمقدسات أو للانعتاق من ربقة الظلم والفساد فترتسم صورة مرحلة التشكيك مما عاشه ثوار ومجاهدي الجزائر من استهزاء من قدرتهم في إخراج أكبر قوة إمبريالية في القرن العشرين فرنسا عند اندلاع ثورة التحرير المجيدة، وعايشنا هذه المرحلة الصعبة وقت ثورات الربيع التي تم فيها الاستهزاء من قدرة شباب يافع أعزل من إسقاط إمبراطوريات عششت في كراسي السلطان عقودا زائلة. إن نجحت الفكرة الإصلاحية من مرحلة التشكيك وغرس الريبة تكون قد حمت نفسها من أول حاجز لبلوغ مقام التحقيق ومنعت الإجهاض عن ذاتها، لكنها تبقى بداية الطريق!

2- مرحلة الشخصنة وضرب رموز الفكرة

تدخل الفكرة في مرحلة جديدة ليست بقدر يسير من الخطورة مثل سابقتها فنجاح الفكرة نقلها من بذرة تحت ترابية إلى غصن طري في بداية البزوغ، بعد ثبوت صلاحها وتأكد صحتها ويقينية طيبتها، ولن تصل الفكرة إلى هذه المرحلة إلا عبر سمو وعي صاحب الفكرة أفرادا ونظما ومؤسسة، وثقته في صلاح الفكرة وقدرتها على الإصلاح وثباته على تحقيقها وعدم ركونه للمشككين وسماعه للمرجفين.

ثبات صاحب الفكرة الإصلاحية مؤسسة وأفرادا وبروز الإنتاج الصادق والإنجاز المأمول يدفع بالمرضى من مشككين إلى التطفل على الفكرة والتخطيط لسرقتها
ثبات صاحب الفكرة الإصلاحية مؤسسة وأفرادا وبروز الإنتاج الصادق والإنجاز المأمول يدفع بالمرضى من مشككين إلى التطفل على الفكرة والتخطيط لسرقتها
 

هذه النقلة ستلقى الفكرة نتاجها أعداء آخرين لا يقدرون على نقد الفكرة بعد نجاحها ولا يتحقق لهم التشكيك في قدرتها في إصلاح واقع أو بناء صرح جديد قوي، فيتحول السهم وينتقل المستهدف من الفكرة لحاملها قدحا وتشكيكا وتقليلا.

سيلقى المصلحون وحملة مشاريع التجديد حروبا نفسية واجتماعية واقتصادية قاسية، فيلقى أهلها من الفتن والمصائب والآلام مما يطمع فيه الفسدة من لجم طموح التغيير والإصلاح. فإن كان ذلك من العدو المتدافع عنه، وصاحب الفكرة النقيظة فإن أصحاب الأفكار الجديدة قد يلقون نفس الحروب النفسية بالتشكيك من في نيات المصلحين زحاملي المشاريع الجديدة وضرب مكانتهم الفكرية والاجتماعية بين الناس لمنع تحقيق الإصلاح والوصول لحلاوة الإنجاز وتحقيق مقامات التمكين ويضنون أنهم يحسنون صنعا.

تعد هذه المرحلة مفترق طرق بين النجاح والسقوط الحر أو الترنح بينهما ومفتاح تجاوز المرحلة عدم الركون التّام للدفاع عن صاحب الفكرة إلى حد التقديس بل يكون بترسيخ إنجازات الفكرة الإصلاحية وتكثير منجزاتها بديمومة الحركة وصناعة الفعل وقوة الإنجاز. وذلك الدواء المبرئ لداء الجمود والجهل حسن النية، والمؤجج لنارة الغيرة والحسد والضغينة لأعداء الفكرة.

وإسقاطات ذلك انتقال قريش من النيل من التوحيد إلى القدح في رسول الله ونسب أراذل الأوصاف لشخصه الكريم والوصول إلى حد الضرب والاغتيال وانتهاك حرمات صحابته والتنكيل بهم، فما حدث من رسول الله أن طلب من الصحابة الدفاع عنه بل الصبر على استراتيجية التربية والتكوين والتأهيل من جهة والثبات على نهج الدعوة والحركة من جهة أخرى ومقابلة كل ذلك بالإنجاز الساكت المسكت.
 

تمكين الفكرة في المجتمع يصنع الصحوة، صحوة واستيقاظ المجتمع من غفلته فترتقي حتميا لتنتقل الفكرة للدولة فتصنع بذلك النهضة المنتجة للتنمية والرفاه
تمكين الفكرة في المجتمع يصنع الصحوة، صحوة واستيقاظ المجتمع من غفلته فترتقي حتميا لتنتقل الفكرة للدولة فتصنع بذلك النهضة المنتجة للتنمية والرفاه

3- مرحلة سرقة الفكرة والتطفل عليها

ثبات صاحب الفكرة الإصلاحية مؤسسة وأفرادا وبروز الإنتاج الصادق والإنجاز المأمول يدفع بالمرضى من مشككين إلى التطفل على الفكرة والتخطيط لسرقتها، وكذلك يحدث لأي ثورة أو فكرة جديدة بعد نجاحها في اجتياز العقبتين، والوصول لهذه المرحلة لا يعتبر نجاح للفكرة فالخطر لا يزال في ذروته من إمكانية عودة الثورة المضادة وسيطرة المتطفلين على إنجازات الفكرة وتحويرها لذواتهم وشخوصهم ومصالحهم سواء من المغترين بالإنجاز من داخل الفكرة أو المتسلقين الكارهين المترقبين من خارجها، وتحدي المرحلة التطهر من المتطفلين والمتسلقين وحماية الفكرة وتنظيمها والتجديد المستمر لنظمها وأدواتها ووسائل تأثيرها.

فيكون ثمرة ذلك مرحلة التمكين للفكرة، ولن يتأتى ذلك إلا بتحول الفكرة إلى ميكانيزم اجتماعي متحرك وكادر بشري واعي بالفكرة وأبعادها ومؤمن برؤيتها وأهدافها وارتباطها بالهدف الحضاري للفرد الإنسان ومؤسسات اجتماعية منتجة للفكرة محققة لها على أرض الواقع. وقتها سيتم حماية الفكرة ممن يجتهد إلى سرقتها وتطويعها لتحقيق عكس سبب وجودها.

4- مرحلة التمكين

هي المرحلة الأخيرة المثالية لما لها من مشاعر تحقق الرؤية المرسومة المخطط لها، وكما أنها فترة القوة وهرم الإنجاز من دورة حياة الفكرة فهي أيضا بداية مرحلة الترهل والضعف عند نزوغ أصحاب الفكرة للترف من جهة والجمود والاستبداد من جهة أخرى، فتبعد الفكرة عن الواقع شديد التغير غير مواكبة له في تطوراته، أو مغترة لما وصلت له من صعود ورقي سيزول بمجرد التوقف عن العمل والتجديد.

تمكين الفكرة في المجتمع يصنع الصحوة، صحوة واستيقاظ المجتمع من غفلته فترتقي حتميا -وذاك هو تحدي واقعنا الحالي- لتنتقل الفكرة للدولة فتصنع بذلك النهضة المنتجة للتنمية والرفاه، هادفة للجمع بين تمكن الفكرة في المجتمع والدولة لتبرز الحضارة بتداول المصلحين المجددين على تحقيق أفكارهم ومراكمة سابقاتها في محراب المجتمع وميدان السياسة والحكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.