شعار قسم مدونات

الفعل الصامت.. ملاذ الهاربين من آلام الذكريات

مدونات - مسلم

مُؤَخراً بدأتُ أفهمُ شيئاً ما دَعوتُهُ بِالفِعلِ الصَّامِتْ.. فُعلٌ أبلغُ من أي نحوٍ عرفتُه حينَ اقترَن بالصَمت، فكان له من التأثير أعمقه وأبلغه.. كثيرون ممن أعتبرهم قدواتٍ لي لم يكن يعرفهم أحدٌ يوماً، احترفوا العمل خلف الكواليس، مضت خطواتهم بهدوءٍ وثبات نحو أهدافهم دون ضجيج ولا زوابع، حتى إذا رحلوا ظهر الأثر صارخاً.. فكان فعلهم صامتاً ثم صرخ حتى وصل أعماقنا.

 
ولا يُفهم من كلامي أن تستهلك نفسك بصمت أفعالك، فهناك فرقٌ بين الفعل الصامت والضمير المستتر وجوبا إذ لا يمكن أن يحل محله اسم ظاهر أو ضمير منفصل فهو منعزل بذاته لا تقدر الحركات عليه ولا يستتر إلا في محل رفع، متقوقع حول نفسه لا أثر له ولا صوت فقط بإمكانك أن تلحظ مكانه الفارغ.. أما الفعل الصامت فكان الصمت فيه اختيارا له سمةُ الحكمة، فلا يدوم صمتُ الفعل طويلاً، فالصمتُ مبدأه غريب، يُقيم حتى تتمكن الفكرة من قلب صاحبها وتصبح واقعاً واجب الجهر، فلا تظلم نفسك بكثرة الاستتار.. 

 
لم يقتصر مفهوم الفعل الصامت في خاطري فقط على أفعال القدوات بل اتسع مفهومه كثيراً، فقد يكون الفعل الصامت حالة تلجأ إليها في مواطن مدروسة تتقنه فيها، كأن يكون أبلغ جواب لبعض الأسئلة، أو أفضل رد على الجاهلين.. "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"، أو قد يكون أفضل طريقة لتتعلم فن الاستماع، وقد يكون هجوماً مستتراً .

 

الفعل الصامت هو ملاذ الهاربين من آلام الذكريات.. ومسكن العاشقين لخبيئة الأعمال الصالحة، وسبب اقتداء وحكمة، ومقدمة كل عاصفة.. وحسرةٌ لمن يستهلك نفسه فيه فيظلمها ويظلم نجاحه

وقد تلوذ به حين تعجز عن البوح.. أو تحاصرك أشياءٌ من الماضي.. أفعالٌ ماضيةٌ بقيت ناقصة فبنيناها على السكون، لكن كن مدركاً أن هذا سيترك أثرا في أعماق عينيك، وسيفهم هذا الأثر ذو البصيرة .وقد يجتاح الفعل الصامت معقل الكلمات والحروف، فكم من قلمٍ فعل بنا الأعاجيب بكل صمت، فحتى إيقاع الحروف المختلف يخبرك أن هناك شيئاً قابعاً في العمق قد تغير، فعلٌ صامت لكن له صوتٌ تميزه وحدك فيتركَ صَداهُ في داخلك .

 
تبقى الأفعال الصامتة عصيّة على التفسير إلا لقلبٍ أتقن الصمت وفهم معناه، فالصمت في مواطنه سيد الكلم وسمة الحكمة. أجمل أنواع الصمت التي عرفتها صمت الليل وقت السحر حيث لا أحد إلا أنت والله، فإن زينت هذا الصمت بسجدة ودعاء وذكر أصبح فعلاً صامتاً بالغ الأثر، يقتحم أعماقك حيث لا أحد يعلمك فتتجرد من كل ما يثقل روحك لتنعم بأعجب الطمأنينة.. هناك حيث تصبح خفيا تقيا نقيا تدرك عمق الأمور متجاهلا قشورها.. هنا وهنا فقط في خبيئة العمل الصالح يحمد دوام الفعل الصامت.. 

  
ميدان آخر للفعل الصامت كان الفعل فيه سبب اقتداء.. في موقف نبوي يوم صلح الحديبية في السادس من الهجرة حين اشتاق الصحابة لرحاب بيت الله الحرام فمُنعوا وبلغ غيظهم ما بلغ، حين طلب منهم رسول الله أن يتحللوا من إحرامهم ولم يحرك أحد ساكنًا لفرط خيبة أملهم لا لقصدهم معصية الرسول، فأشارت أمُّنا حفصة على رسول الله أن لا يُكلم أحداً منهم بحرف وأن يقوم فيتحلل ويحلق، هنا حرك فعل رسول الله الصامت إدراك الصحابة لينهضوا متحللين حالقين، ثم ليكتب الله لهم فتح مكة في الثامن من الهجرة.

 

بحثت وتأملت كثيرا في الفعل الصامت لأصل لأشياء كثيرة متشعبة كما قرأتم أعلاه.. وكان أن لاحظت أن الفعل الصامت خطوة أو مرحلة تمر بها الأشياء العظيمة قبل أن تخضر وتزهر.. فهو ميدان الناجحين قبل خروجهم إلى النور، وميدان رد وإفصاح لمواقف مدروسة، وهو ملاذ الهاربين من آلام الذكريات.. ومسكن العاشقين لخبيئة الأعمال الصالحة، وسبب اقتداء وحكمة، ومقدمة كل عاصفة.. وحسرةٌ لمن يستهلك نفسه فيه فيظلمها ويظلم نجاحه.

"فإنْ لم تكُنْ صَدراً بأوَّلِ جُملةٍ
أو فاعلاً للمجدِ في إسْهاب
إيَّاكَ أن تبقى ضمِيراً غائِباً
أو لا محَلَّ لهُ منَ الإعْراب!"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.