شعار قسم مدونات

التسول.. بين الاحتياج والامتهان

مدونات - متسول التسول
لم أتفاجأ كثيرا عندما رأيت أرقاما تجعل بلدي العزيز يحتل لفت الانتباه لها من أجل العمل على إيجاد حلول قد تساهم على الأقل في تقليصها لأنه صعب جدا أن تجتث من جذورها الضاربة في العمق. المرتبة الأولى لمجموعة من الدول العربية من حيث عدد المتسولين. كانت دهشتي قد بلغت ذروتها قبل نشر هذه المعطيات بأسبوع فقط، كنت في طريقي إلى العمل عندما تقدم نحوي أربعة شبان في مقتبل العمر وكل منهم يطلب أن أساعد بما "كتب الله ". صُعقت حينها لأن الأربعة يتمتعون بصحة جيدة ولا يبدو عليهم أثر الإدمان أو التشرد بل خُيل إلي في أول الأمر أنهم يهمون بقطع الطريق قبل أن يتقدموا واحدا تلو الآخر نحو السيارة راجين كرما وجودا في هذا الشهر الفضيل، صدمني المشهد وصرت أُحلله وأُناقشه دون أن أفكر إطلاقا في مساعدتهم بل كنت في المقابل سأهم بمساءلتهم عن السبب الذي جعل شبانا يلجؤون إلى التسول وهم في مقتبل العمر عوض أن يبحثوا عن عمل شريف يضمن لهم قوت يومهم ويحفظ ماء وجهوههم.

  
لقد بلغ الفشل بجِيلنا مبلغا مخجلا، ألهذه الدرجة صرنا نفضل الأشياء الجاهزة والتي تأتي بأقل مجهود ممكن؟ من السبب يا ترى هل الدولة التي لا تبذل الكثير من أجل محاربة الهدر المدرسي والتي لا تعمل جاهدة على توفير فرص للشغل فتدفع بالعاطلين عن العمل إلى البحث عن لقمة العيش بكل الطرق المتاحة ويكون أسهلها هو التسول؟ أم أن الآباء يتحملون جزءا أكبر من المسؤولية عندما يعجزون عن تربية أبنائهم تربية صالحة لِيجعلوا منهم أشخاصا مسؤولين وطموحين مقبلين على الحياة ومستعدين للقتال من أجل تحقيق أهداف نبيلة عوض الاستسلام لليأس واتباع أقصر الطرق وأقلها تكلفة من حيث المجهود والوقت. ولربما يعود الأمر لفشل منظومة التعليم أيضا والتي أصبحت تُنتج أعدادا مهولة من العاطلين عوض أن تُنتج طاقات قابلة للتأقلم مع سوق الشغل وقادرة على الإبداع واستغلال الفرص المتاحة لتسلق سلم النجاح.

 

ما أعجز عن تقبله هو تسول الرجال وهم بصحة جيدة وأُدخل في هذه الخانة حتى المهاجرين الأفارقة واللاجئين، وحتى غير اللاجئين الذين يعمدون على تقليد لهجة اللاجئين

آلمني ما رأيته كثيرا وعجزت عن تفسيره، نقبل عادة بالمتسولين ونساعدهم عندما يتعلق الأمر بمسنين وبذوي الاحتياجات الخاصة، لأننا ندرك جيدا أنه هناك نقص مهول في المشاريع والقوانين الخاصة بحماية هاتين الفئتين. نعترف والألم يقطع أوصالنا أن الظلم والجهل يفتكان بهؤلاء، فالمؤسسات الخاصة بهم غير كافية ربما أو أنها لم تنضج بعد لتقوم بدورها على أحسن وجه، وحتى انعدام الوعي في المجتمع يساهم في تفشي ظاهرة تسول ذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين، فهناك من الأسر من يستغل وضعيتهم ليؤثر في قلوب المارة.

 

 أتفهم حالة هؤلاء وأتقبلها بكل أسف لأننا كلنا مسؤولون عن وضعيتهم، ولربما أميل أيضا، في بعض الأحيان، إلى تقبل التسول من النساء وهن بصحة جيدة ويصطحبن أطفالهن في هذه المهمة "الشاقة"، رغم أن الأمر يُثير غضبي لأن عقلي يعجز عن تقبل أم تدفع بابنها للتسول واستغلال صغر سنه ونحافة جسمه لطلب عطف الناس في الشوارع. ففي نظري الأمومة أسمى وأعمق من كل ذلك، وهي إحساس عظيم وقوي يجعل الأم تصل الليل بالنهار وتعمل بجد وكد لتوفير لقمة العيش لصغارها عوض عرض أجسامهم الصغيرة المرتجفة في أيام البرد القارس أو تحت الشمس الحارقة من أجل استفزاز عطف وكرم المارة الذين منهم من يستجيب لنداء قلبه وهو خجل من نفسه ومن وخز الضمير فيساعدها بأعين دامعة ومنهم من لم يعد يضعف أمام مشهد مماثل بعد انتشار العصابات التي تقوم باستغلال الأطفال وتمتهن التسول.

  undefined

 

ولكن ما أعجز عن تقبله هو تسول الرجال وهم بصحة جيدة وأُدخل في هذه الخانة حتى المهاجرين الأفارقة واللاجئين، وحتى غير اللاجئين الذين يعمدون على تقليد لهجة اللاجئين. لا أستطيع إطلاقا تقبل الأمر فكيف لشخص في كامل قواه الجسدية والعقلية أن يجعل من التسول مهنة له في ظل صمت مخيف للسلطات، كيف لا يحاول هؤلاء البحث عن عمل ونحن في بلد لا زال يُعتَمد فيه على القدرات الجسدية أكثر من المهارات الفكرية والشواهد العلمية. ماذا يمنع هؤلاء من القيام بأي عمل واستغلال قوة أجسامهم لكسب قوت يومهم. لا أعتقد أن الحاجة ملحة لدرجة تستوجب سحق الكرامة والاستعجال في طلب الرزق السهل الهين.
    
أحترم كثيرا ذاك المهاجر الإفريقي في حينا الذي أَعْمَلَ عقله واختار أن يطلب عطف المارة بطريقة ذكية جدا عندما اقتنى مكنسة ينظف بها أزقة الحي، وفي المقابل يجود عليه سكان الحي كل حسب إمكانياته بل منهم من يُوفر له طعام يومه، أبتسم عندما أراه كل صباح وهو ممسك بمكنسته وأحترم كثيرا روحه المحبة للإحسان وإعمار الأرض ونخوته الرافضة للتواكل والعيش متطفلا على الآخرين. بل إني أجد فيه درسا في التفاؤل وفي تحويل الظروف واستغلالها لصالحنا.
    
أدرك جيدا أن هذا الموضوع شائك جدا، وفيه صراع كبير بين ما يفرضه العقل وما تُمليه العاطفة وما يدفع إليه الوازع الإنساني، لربما تختلف الأسباب الدافعة بهم للتسول، ولربما ما نجهله أعظم مما نعلمه وعرض كل هذا مع جميع وجهات النظر المصاحبة لها يتطلب مدادا وأوراقا كثيرة، لذلك تظل هذه مجرد محاولة متواضعة لتسليط الضوء على هذه الظاهرة المتفشية جدا في مدننا الجميلة والتي تتفاقم بحلول شهر الخير، فكما يستغل التجار جوع الصائمين لبيع سلعهم الشهية بأغلى الأثمان رغم رداءة جودتها، يعمل المتسولون أيضا على استغلال رغبة الصائمين في التقرب من الله واكتساب الثواب بعرض آفاتهم -التي قد نكون مُفتعلة- وفقرهم بطرق مؤثرة أمام محلات أولئك التجار ليتجاوز عدد المتسولين عدد الزبناء، وهنا يستوقفني سؤال لماذا لا يستغل هؤلاء المتسولون الإقبال الكبير على هذه المحلات التي يتضاعف عدد عمالها في رمضان والقفز للجهة الأخرى لطاولة عرض السلع بإيجاد عمل حتى وإن كان مؤقتا في هاته المحلات…هي أسئلة كثيرة تظل عالقة بدون إجابات قطعية ما دُمنا نجهل الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة ومادام هنالك من يمتهن التسول ليس احتياجا وإنما لقِصَر وسهولة الطريق المؤدية للقمة عيش مغمسة في "اللاكرامة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.