بدأ الحوثي خطوته الثانية وقد كانت في نظره الخطوة الأهم التي يستهدف من خلالها كل شخص يفترض أنه معارض للحوثي أو كان له سابق خصومة معه، وبتلك الخطوة امتلأت السجون والمعتقلات بأعداد بشرية هائلة تفوق العشرة الالف معتقل كما أشارت بعض التقارير الحقوقية التي وثقت لتلك الانتهاكات، ظن قادة الانقلاب بأنهم في خطوتهم تلك وفي تكديسهم حياة الأبرياء خلف القضبان بأنهم يفتحون مساحة أخرى تضمن لهم نجاحا مكتملا لما قاموا به، كما أنها تؤمن جانبهم من أي ردة فعل مجتمعية محتملة حول ما قاموا به، لم يدركوا بأنهم قد بدأوا بخطوتهم هذه باباً للمعركة الحقيقية والامتحان الأصعب، وأنهم يضعون أنفسهم أمام إرادة وعزة وعزيمة الأحرار الذين انتهت بهم تلك الأفعال إلى السجون والأقبية.
قبل أيام كانت الأمهات يقفن أمام سفير دولة فرنسا، عبّرن له عن معاناة أبنائهن في معتقلات الحوثيين وسردن له جزء مما يتعرضون له هناك، السفير يصف دورهن بالبطولي |
أيضا انسحب إلى العقلية الحوثية قناعة بأنه إذا كان سقوط الدولة قد جاء بتلك السهولة فإن ما بعده بالطبع سيكون أسهل، لم يكونوا حقيقة يعلمون خارطة التعقيدات التي تنتظرهم في جوانب كثيرة كنتائج طبيعية لإفرازات ما بعد سقوط الدولة في أيديهم وسيطرتهم على كل مقدراتها، أظهر المعتقلون في السجون صمودا كبيرا تجاه الغطرسة الممتدة اليهم وقاوموا بصلابتهم عنجهية كانت مؤلمة وقاسية في أجسادهم وملامحهم، أحد أولئك الأبطال يقف إلى جوار قفص المحكمة وهو يصرخ بأعلى صوته بأنه لن يعترف بالأحكام الباطلة وأنه يدعو العالم والمنظمات الحقوقية والمحامين إلى النظر في جسده وما تعرض له من وحشية لم يسبق لها أن كانت في زنازين النازية ومحاكم التفتيش في الأندلس.
كان ذلك المشهد محرجا لوسائل إعلام الانقلاب ولكل الحاضرين في قاعة المحكمة، كان مشهدا يعكس صورة مصغرة عن العناد المفتوح في صدور المعتقلين وهم في الوضع الذي تسمح فيه النفس البشرية لأن تبدو ضعيفة نتيجة الرعب النازل عليهم كل لحظة وكل حين، لكنهم ما يزالون لا ينصاعون للإملاءات والإغراءات التي تقدم لهم ويحتفظون بأخذ حقهم ممن جعلهم على حالتهم التي يعيشونها منذ بدء الانقلاب، هذه المجالدة لم تكن عفوية كما سيتخيلها البعض أو شعور اللحظة ولكنها تذهب نحو امتداد آخر، نحو الأمهات اللواتي وضعهن أيديهن جيدا باسم الرحمن على تربية ابنائهن وهن اللواتي جعلنهم يقفون على هيئة الشموخ تلك.
من تلك اللحظة التي تم فيها اعتقال أبناؤهن وهن يكافحن بشتى الوسائل والأساليب للتخفيف من المحنة التي يتعرض لها فلذات اكبادهن، تجمعت جهودهن وتكاثفت عزائمهن فأنشأن رابطة أمهات المختطفين، وعبر هذه الرابطة دشنت الأمهات عهدا جديدا في التعامل مع واقع أبنائهن ومن مساحة أوسع وأعلى، تفرعت الرابطة فشملت معظم محافظات الجمهورية وأصبح لهن كتابا مفتوحا من الأنشطة والأعمال التي يقدمنها في هذا السبيل، صارت الوقفات الاحتجاجية شبه يومية بالإضافة إلى البيانات والتقارير المترجمة لعدة لغات وأعمال أخرى تتزامن مع عدة مناسبات وبجهود شخصية وذاتية في غالب الأحيان.
الأم اليمنية لا تفقد الحيلة حين يتعلق الأمر بابنها وحين تعلم براءته أيضا وأنه يعيش ظلما مكتملا يسعى للقضاء عليه، حينها لا تكل ولا تمل ولا تهدأ، تسعى مفتوحة الفؤاد، وتقف حادة العينين، وتستمر كما لو أنها تبدأ، الأم اليمنية كانت أقوى من قلاع العسكر، وأدهش من مصفحات الجيوش، وأصلب من آلاف الوجوه التي صمتت وفتحت الخط الأسود كما قيل حينها، وهي التي ظلت وما تزال صامدة في وجه الإرهاب والانقلاب معا، إذ لا يجرؤ أحدا وفي وسط العاصمة صنعاء أن يحرك عيناه في وجه الانقلاب فضلا عن أن يحرك شفتاه فيقول كلمة، ليس في مقدور أحد ذلك سوى أم مكلومة حزينة تأتي إلى باب المعتقل وتصرخ في وجه الحوثيين وتنفذ وقفة احتجاجية ترفع بها رجولتنا نحو السماء وتعيد بها صياغة وعينا الذي كدنا نفقده جراء صدمات عدة تعرض لها، تفعل ذلك وتعود لمنزلها كي تعد خطة اليوم القادم.
قبل أيام كانت الأمهات يقفن أمام سفير دولة فرنسا، عبّرن له عن معاناة أبنائهن في معتقلات الحوثيين وسردن له جزء مما يتعرضون له هناك، السفير يصف دورهن بالبطولي خصوصا وهن يقمن بهذا العمل في لحظة ما يزال الانقلاب يتنفس معها، سقط كل شيء في اليمن بسقوط الدولة عدا تلك الإرادة التي سكنت روح الأم اليمنية، وهي ذاتها التي قهرت بها آلة الانقلاب العمياء، وما تزال أمنا لا تكف عن الكفاح في سبيل الحرية والمجد والانعتاق الذي تنشده لأبنائها المختطفين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.