شعار قسم مدونات

هل فقدتُ والدي حقاً دون عودة؟!

blogs حزن

ماذا لو أمكننا التوقف عن التفكير؟ ماذا لو أنه كالكلمات.. قادرين على ممارستها متى شئنا، محالٌ سنصبح في عداد المفقودين، غارقين في صمتً لا نجاة منه حتى في الخيال، ولأن الفكر هو بوابة الخيال ستغلق في وجوهنا بوابة النجاة الوحيدة، ومع ذلك ما زال التفكير مرهقاً. ماذا لو أمكننا التوقف عنه؟ هل ستضج الأخبار بنبأ وفاتنا، لكونه المحرك الوحيد لصوتنا وإيماءاتنا ولغة أجسادنا، أم أنه موتٌ وحيدٌ لا نشعر به إلا نحن، هل صوتُ المتحدث داخلنا سيصمت يوماً ويُزيح عبئ الذكريات عن رؤوسنا، لا بأس أن تبقى في قلوبنا.. لأن التعب جلّه في هذا الرأس.. لكن مع ذلك فلن يحدث، وسنظل نسأل متى سنكبح المخيلة ليحل مكانها النسيان أخيرا.

متى سيأتي موعد النسيان لأرفع رأسي مجددا وأمضي دون أن تبادرني إحدى تفاصيلك المتعبة، فأعود من جديد كأنه تخلف عن ميعاده، أو ربما ما عاد النسيان واثقاً في قدرته على محوك مني، لأن وجودك كان دائماً اقوى من مجرد أيام تمضي لتمحيه، هكذا أنت يا أبي وهذا ما نحاوله أنا وأمي كل يوم، وعلى مدار الأشهر الماضية.

مع هذا الصمت الغريب، يمكنني أن أسمع صوت أنفاس أمي، لقد أصابتنا حمى الصمت منذ غيابك، ورافقتها حمى الوحدة، أمي لم تعد رغبتها في الكلام ملفتة كما السابق ،دائماً في شرودٍ مخيف.. وكأنها تستذكر كل العشرين سنة الماضية في ساعات شرودها وغالباً ما تُنهيها بشهقة بكاء، أما دمعها فكان مرافقها طوال الوقت، بعض الأحيان يا أبتي كانت تصاب بانخفاض مفاجئ بالضغط، إنه الوقت الوحيد الذي يسمع فيه صوتي خائفة من المنزل حتى يعدل كأس اللبن المالح صحتها، عدا ذلك كنا نجلس بين هذه الجدران متقابلتين، هي تشاهد التلفاز وتبكي مع كل مشهد درامي أو خبر وفاة، وأنا أنظر إلى صورك التي تغطي حائط الغرفة، انظر إلى عينيك جيداً، أشعر وكأنك تراني، أو ترسل لي إشارة ما.

لم تشأ أمي منذ ذهابك أن ترتب ملابسك في مكان ما، ما زالت معلقة خلف الباب، نفس الرائحة ونفس التعليقة وذات الترتيب، حتى أوراقك ومفاتيحك وعلبة دوائك ما زالوا في جيب سترتك

في كل مرة كنت اكتشف فيك شيئاً جديداً لم أكن ألمحه سابقاً، لديك شامة تحت خط حاجبك الأيمن، لكنها مغطاة بشعر كثيف.. ومع ذلك لاحظتها، وهناك أربعة تجعيدات تحت عينك اليسرى، بينما ثلاث تحت الأخرى. تمنيت جداً لو أنك هنا، لأرى تلك الملامح أمامي، لأحفظها أكثر، كنتُ سأرسمك في مخيلتي كنقشٍ حجري، فلولا صورك محالٌ أن أذكر تلك الشعيرات القليلة تحت شفتك السفلية، ستهتم ذاكرتي غالباً بما هو أوضح للعين، ولو أنها صورة متحركة.. لأحفظ بها أسلوبك في الحديث، كيف تومئ وتشير بيديك مع كل كلمة، كيف تضحك مع شخير بسيط، كنتُ لأحفظك عن ظهر قلب. الأن صار الوقت كله ملكاً لك.. وللحديث عنك، حتى في صمتنا كانت أصواتنا الغير مسموعة تتحدث عنك، في كل مرة أرفع راسي لأرى أمي، كانت اعيينا تعكس صورتك، كان واضحاً أنَّ كل ما في المنزل يشير اليك بطريقة ما.

لم تشأ أمي منذ ذهابك أن ترتب ملابسك في مكان ما، ما زالت معلقة خلف الباب، نفس الرائحة ونفس التعليقة وذات الترتيب، حتى أوراقك ومفاتيحك وعلبة دوائك ما زالوا في جيب سترتك، لم أعلم سر الاحتفاظ بأدنى مقطع من حياتك عندما رأيت الباب مراتٍ يتحرك مهتزاً، كانت أمي تشد ثيابك إلى أحضانها وتتنفسها وكأنك ما زلت بداخلها، تحملها رائحتك اليك، بشكلٍ كان يرضيها لثواني، ثم ما يلبث أن يجعل منها جسدا هشاً يرتمي أرضاً من هول الفراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.