شعار قسم مدونات

رسالة إلى ولدي.. اشتقت إليك

blogs الأبوة

بالأمس مر طيفك من أمامي، لم تزرني منذ فترة طويلة، لا شك أنك بخير إني مطمئنٌ عليك تماماً ولكن يؤلمني غيابك فقط، لقد كبرت وأصبحت شاباً، ثُقبُ فَقدِكَ فِي قَلبي ما زال مفتوحاً ينزف قهراً وفمي ينزف على فقدك صراخ ألم وحسرة، ونزف عينان أمك أمر وأصعب، فهو نزيف للعائلة بأكملها.

 

ربيتك يا ولدي وأنا أرى مستقبلك أمامي، رسمتُ أيامك القادمة بمخيلتي ودعمتُ تخيلي لمستقبلك بدعاءٍ في ظلمة الليل عل الله أن يقر عيناي بك، أريدك طبيباً، أريدك مهندساً أريد أن أراك ناجحاً، هذا ما فكرت به دائما، الكثير من الدعوات والآمال ملأت قلبي، ربيتك ورأيتك تكبر أمامي فيزيد فرحي فرحاً، ها أنت قد قلت كلمتك الأولى وستعرف عندما تكبر أن الكلام في بلادنا جريمة ستندم فيما بعد على تعلم الكلام ولكن لا تبتئس، مشيت خطوتك الأولى وستعرف أن الخطوات في بلدنا هي باتجاه القبر فقط.

 

عشتُ وأمك آملين بالغد نضحك لابتسامات الأولاد ونبكي لدمعاتهم، نفرح لضحكاتهم، ترجع من يومك المدرسي الأول فنستقبلك بدمعة الفرح وقبلة الأمل، "ها هو ولدي وضع قدمه على أول الطريق" هكذا قالت لي أمك حينها، وكلي أملٌ بأن أراك بعد عدة سنين شاب، هذا هو الحال الطبيعي ولكن هناك ما لا تراه العيون، ولا تتخيله العقول، هناك في وطن الألم والقهر يختلف المشهد تماماً، ويتغير السيناريو، سيناريوهات الطفولة والشباب والكهولة، في قطعة من قطع الأرض التي سموها لنا وطناً وأقنعونا بهذا الاسم، هناكَ رسمت مستقبلك فحطم ذلك المستقبل قذيفة مدفعية.

 

إن كان الألم هو قدرنا فلنعش هذا الألم بكل ما أُوتينا من إيمان، فلا مفر مما قَد كُتبَ علينا، ولا مفر من قدر الله، ولا يقف في وجه الابتلاء إلا إيمانٌ راسخ، وعقيدة صلبة

نظرتُ لأيامك القادمة فَعُمِيَت عيناي الناظرة بفعلِ دخان يتصاعد بعد صاروخ استقر بجانبنا، أريدُ أن أراكَ طبيباً، أريد أن أراكَ مهندساً، الآن أريدك فقط، أريد أن أراك لا أكثر، أن تلمح عيناي عيناك، أن تلمس يداي وجنتاك، أريد أن أمسح بيدي على رأسك، أن أرفعك فوق كتفي معلماً إياك أنك تستطيع قطف النجوم إن أنت أردتَ ذلك وعزمتَ عليه، قصف أصاب قلبي قبل أن يصيب بيتي ورزقي، نهضتُ معافىً جسدياً مقتولاً نفسياً وكم من حيٍ في هذا الحياة وهو في الحقيقة ميتٍ، حيٌ بيولوجياً أتنفس الهواء والألم والقهر، لم يعد قلبي بعد الآن ليس قلباً، بل مضخة للدم، قلي بالله عليك كيف من الممكن أن يُحتَمل ذلك الألم؟

لففتك بقماشٍ أبيض، أحمل جثمانك الصغير بين يدي وأذرف عليك دماً بدل الدموع، هل رأيت من قبل من يدفن قطعة منه في الأرض؟، دفنتُ جثة ولدي ذو التسعة أعوام، ووضعت إلى جانب تلك الجثة شيئاً يُسمى السعادة، حثوتُ الترابَ فوق رأسك الصغير الممتلئ بالحياة ودفنتُ معك الفرح والعيد، وعين أمك من بعيد تلحظ ذلك المنظر، ستسقي القبر يومياً دمعاً قبل أن تسقيه ماءاً إلى أن يشاء الله، اقتربت منك وقبلتك على رأسك، أتبخل أن ترد عليها بقبلةٍ يا ولدي؟ حوقلتْ آخذةً نَفَسَهَا الأخير قبل أن تغيب عن وعيها، كانت قد واعدتك في مكان ليس كمكاننا هذا، في دنيا ليست كالدنيا، ستبقى دنيا سوداء في نظرها وحق لها أن تراها كذلك.

ستضع ملعقتك الصغيرة على مائدة الطعام وكأنك ما زال معنا، ستغسل ملابسك وترتب غرفتك، ذلك اليوم نظفت حذاءك ونادتك من أجل اللحاق بصلاة الجمعة، ابتسمت حين سمعت صوتك يقول لها أنك قادم وبكى قلبها ذو الندب الكبير ذاك، تردد في أذنها صوت شيخ المسجد وهو ينعي شهداء البلدة، قالها الشيخ بالفم الملآن حتى أسمع الجميع، "شهيد البلدة الطفل" وغص بعدها ثم أردف قائلاً: "الطفل عصفور الجنة علي، جعل الله مقامه عاليا في جنات عليين".

 

حينها تذكرت الأم أن اللا عودة هي المصير المحتوم، إن كان الألم هو قدرنا فلنعش هذا الألم بكل ما أُوتينا من إيمان، فلا مفر مما قَد كُتبَ علينا، ولا مفر من قدر الله، ولا يقف في وجه الابتلاء إلا إيمانٌ راسخ، وعقيدة صلبة، دعونا لك في جوف الليالي المظلمة فكن لنا شفيعاً يوم القيامة، لم تنل شهادتك الجامعية كما نرغب لكنك نلت الشهادة الأعظم وإنا لفراقك يا ولدي لمحزونون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.