شعار قسم مدونات

لماذا اعتكفنا على ترتيل القرآن بدلا من دراسته؟

A Muslim man reads a religious book after offering early morning prayers during the holy month of Ramadan at the Jama Masjid (Grand Mosque) in the old quarters of Delhi, India, July 2, 2015. REUTERS/Anindito Mukherjee

إن المتتبع للساحة الفقهية في مختلف بقاع الدول العربية يلحظ مدى اهتمام كل الفقهاء بوضع القواعد التجويدية والترتيلية للمصحف الكريم، وتحسين المخارج والعمل على الصوت في قراءة التنزيل الحكيم؛ عملا بالآية الكريمة: "وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا". ولاعتبار أن العقل العربي عقل ترادفي؛ فقط فهم الفقهاء المؤسسون للترسانة التشريعية للدين الإسلامي هذه الآية انطلاقا من مقام أن الله تعالى أمر رسوله الكريم بتحسين صوته، وتجميله وقراءة القران مرتلا؛ أي تجويدا. وهو اللفظ المتداول عندنا في مختلف بقاع الدول العربية، ولهدا نجد الكثير من المحافل التي تعقد في شأن تدارس السبل لتحسين هذا العلم الذي أصبح قائما بحد ذاته.

إن هذا العلم جعل من العقل العربي الجمعي ينظر إلى القرآن الكريم كمادة تقرأ؛ وأصبح من حق القارئ أن يجتهد في حفظه وترتيله والمسابقة على تدقيق القواعد الموضوعة مسبقا واتقانها. هذا العقل الجمعي لم يعمل البتة لمحاولة تحليل كلام الله واستخراج واستخلاص المعرفة من التنزيل الحكيم؛ لأن من بين هذه القواعد الفقهية المتداولة ما ورثت عقدة تأنيب الضمير لدى الفرد العربي، وأن أي خطوة لمحاولة فهم كلام الله تعالى تزج بصاحبها في سجن التطاول على كلام الله تعالى بغير علم.

العلماء الذين قدموا العطاء للإنسانية بمختلف توجهاتهم وتخصصاتهم إنما عملوا على تحليل كلام الله تعالى ومطابقته لكلماته التي تعم الكون. وبالتالي لم يقتصروا على ترتيل كلام الله تعالى

هذه القناعة تشربها العقل العربي الجمعي من خلال اعتبار أن كلام الله تعالى هو مصاغ لفئة معينة من الناس والتي لها الحق لوحدها في التأويل والتفسير. ثم من خلال ذلك منح لها الحق في التشريع، إن هذه الفئة العريضة في جل الأوطان العربية التي ورثت هذا الدور لعقود خلت هي الأخرى لم تستطيع أن ترى في القرآن الكريم أكثر من جانب تشريعي يفهم من خلاله الحلال والحرام، الأمر والنهي، والوعظ والنصح، وكحد أعلى فالتنزيل الحكيم في نظرهم يحمل الجانب العلائقي بين الله وعباده وبين العباد بعضهم البعض.

إن فئة قليلة جدا ممن لم تبني تدينها تحت معطى "الشيخ والمريد" هي ما رأت أن القرآن الكريم يحمل إلى جانب ما ذكر نظريات في الطبيعة الكونية والإنسانية، ومختلف العلوم التي توصل إليها الإنسان.. لكن عزاء الفئة الأولى التي لم تستطيع تجاوز الترتيل في التنزيل الحكيم هو أنها تريح ضميرها عندما تستطيع أن تنسب لها كل اكتشاف علمي حديث من خلال البحث له عن أية أو سورة؛ حتى يستطيعون أن يقولوا للمكتشفين والمخترعين والعلماء إنكم لم تأتوا بالجديد، رويدكم! فهذا مكتوب عندنا مند الآلاف السنين في هذا الكتاب.

إن العلماء الذين قدموا العطاء للإنسانية بمختلف توجهاتهم وتخصصاتهم إنما عملوا على تحليل كلام الله تعالى ومطابقته لكلماته التي تعم الكون. وبالتالي لم يقتصروا على ترتيل كلام الله تعالى وتوجيه أعينهم للبحث عن مواضع الإضغام، القلقلة، الإخفاء، التشديد، وإنما حرروا عقولهم لاكتشاف أسرار المعرفة التي وضعها الله تعالى في أبسط مخلوقاته؛ من البعوضة إلى التدبر في خلق الإنسان. إننا نعتقد لو اهتم العرب بمدارسه القرآن الكريم، على أساس ابتكار واكتشاف وخلق النظريات الناظمة للكون لما ظل العرب يعانون نقصا في المعرفة التي إلى الآن هي المقياس الفاصل في وعي شعب على شعب أخر.

الفهم القاصر للآيات والوقوع في شرك ومصيدة الترادف الذي أخذت اللغة العربية صيتها من خلاله؛ هو ما جعل فقهائنا يخافون من الخوض بالقران الكريم المليء بالمترادفات
الفهم القاصر للآيات والوقوع في شرك ومصيدة الترادف الذي أخذت اللغة العربية صيتها من خلاله؛ هو ما جعل فقهائنا يخافون من الخوض بالقران الكريم المليء بالمترادفات
 

إننا هنا نسطر على أن هذا المعطى المتمثل في اهتمام العرب بترتيل القرآن الكريم، هو ما جعل الأمة العربية تزيح مركز الدين الإسلامي، من القران الكريم وتسقطه على السنة النبوية اعتبارا لقول الشافعي: بأن السنة هي الوحي الثاني للقرآن الكريم؛ وبالتالي لم يفرق بين الرسول والنبي، ولا بين القول والنطق في تفسيره الآية في سورة النجم: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰإِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ*" وبالتالي سقط في العقل الترادفي حسب "الدكتور محمد شحرور"، هذه الإزاحة الخطيرة للدين الإسلامي أفرزت الملايين من الكتابات والدراسات التي ألفت على الحديث. ولم يكتب حتى ربعها في شأن القرآن الكريم بل أسس علم بكامله في الحديث.

أطرح السؤال التالي ما الفرق بين الغناء وبين التجويد إذا ما استبعدنا الآلات الموسيقية من الغناء؟ كل ما في الأمر هو أننا نعمل على تغيير الأصوات واللعب على الأوتار الصوتية لإخراج صوت شجي يطرب المستمع وإذا كان الترتيل ليس المقصود به التجويد الذي نعرف وإنما قصد به تصفيف الآيات والحرص على حسن تمركز مواضعيها من خلال قوله عز وجل: "وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا" وبالتالي أمر الله تعالى محمد (ص) بترتيل الآيات والاستعداد لتلقي قول ثقيل حسب قراءة شحرور، لكن الفهم القاصر حسب نظرنا لهذه الأية والوقوع في شرك ومصيدة الترادف الذي أخذت اللغة العربية صيتها من خلاله؛ هو ما جعل فقهائنا يخافون من الخوض في القران الكريم المليء بالمترادفات حسب فهمهم والاقتصار على قراءة الآيات البسيطة وترتيل وتجويد باقي الآيات الأخرى.

هذا المعطى كذلك أعطى الأولوية لمختلف العلماء الغربيين على اعتبار أن التجويد غير وارد في ثقافتهم وبالتالي عندما يقرأون أي كتاب سواء القرآن أو الكتب المنزلة الأخرى فهم يحللون أي كلمة؛ مما مكنهم من إنتاج المعرفة وتصديرها للعالم العربي الذي لم يجهد نفسه في إعادة تفكيكها بقدر ما يطرح السؤال السرمدي: هل هي حلال أم حرام؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.