شعار قسم مدونات

كيف ننشأ أطفالنا على حب القرآن؟

مدونات - القرآن

أرى الآن أمامي القمر مكتملاً بدرًا مضيئًا، هو نفسه الذي كنت أنظر إليه منذ صغري، حيث طفولتي، حيث كان السر كامنًا، حيث بدأت ملامح شخصيتي بالتكون والتي غالبًا ما كانت توصف بالهدوء والرزانة ودقة الملاحظة وكثرة السؤال وفصاحة اللسان والحياء، صفات أقرُّ وأعترف أنني اكتسبتها من نبض قلبي بالقرآن وسط عشرات الأشياء التي كانت تتنافس على امتلاك نبضي. نعم سأروي لكم اليوم خلاصة تجربتي مع القرآن على مدار خمسة عشر عاما، منذ أن كنت في السابعة من عمري بغض النظر عن اعتيادي على القرآن منذ الطفولة المبكرة.

إن من أهم الاستراتيجيات لتزرع في نفس طفلك عشق القرآن منذ أعوامه الأولى المبكرة أن تهتم أنت أولا بالقرآن، حين يراك سعيدًا بقراءةِ القرآن، تتغنى فيه، تارةً تقف متأملًا وتارةً مبتسمًا وتارةً دامعًا في حضرة القرآن سيتولد لدى طفلك فضول عجيب ليعلم ما الذي يقرأه والدي وينهمكان به هذه الدرجة، رويدًا رويدًا سيبدأ طفلك ينتبه أو يسترق الانتباه إن لم تدعه للجلوس معك ثم سيسجل في دماغه بضع كلمات مما تقرأه وسيرددها لوحده وعندما يلعب، ثم سيستغل أي فرصة ليمسك بالقرآن فاتحًا إياه محاولًا تقليدك لتبدأ لَبِناتُ عشقٍ بالتكون هنا ولتبدأ كيمياءُ حبٍّ بين الطفل والقرآن، سيبدو الأمر في بدايته فضول أطفال.

 

عزّز طفلك بضمِّه لحلقات تحفيظ وشجّعه واحرص أن يتلو القرآن أمامك بالحركات الصحيحة فذلك أكثر ما يعينه على امتلاك أذنٍ عربيةٍ فصحى

لكن هنا سيقع عليك تعزيز هذا الاهتمام، بدعوتك لطفلك مثلًا ليجلس في حضنك بينما تقرأ القرآن، قد يغفو طفلك حينها لفرط الطمأنينة الذي تملكته من إيقاع الصوت ومن وجوده في دفء حضنك، وفي أوقات فراغك لقِّن طفلك صغار السور وإن رددها بشكل مضحك لأنه حديث كلام، لا يهم، فقط لقنّه إياها دون إلزام كي لا تنفره، وأساسًا سيكون ذلك تدريبًا للسانه وسمعه.

مع الأيام سيكبر طفلك وفي صدره ذلك الاهتمام٬ عزّز ذلك بضمِّه لحلقات تحفيظ وشجّعه واحرص أن يتلو القرآن أمامك بالحركات الصحيحة فذلك أكثر ما يعينه على  امتلاك أذنٍ عربيةٍ فصحى تدركُ موضع الخلل النحوي بالفطرة، واحرص أن لا تهمل له سؤالاً عن أحد المعاني، فإن كنت تعلم أجبه وإن لم تعلم ابحث معه عن الجواب والسبل في أيامنا كثيرة، اقرأ معه في التفسير وأخبره بمناسبات نزول الآيات فذلك سيُحفر حفرًا في ذاكرته، وما زلت أذكر حتى الآن بعض مناسباتِ نزول الآيات التي قصَّتها علي أمِّي مذ كنتُ في السابعة، فكما قالوا العلم في الصغر كالنقش في الحجر، علِّمه كيف يثبِّت حفظه، وعوِّده حفظ  بعض الأحاديث النبوية التي تناسب سنه، ليكبر ويشتعل لهيبُ التوقِ للمعرفة والبحث لديه حتى يعتمد على نفسه في ذلك، حينها اتركه يكتشف عالم القرآن بنفسه واتركه ليبحر في آفاقه، اتركه ليختبر حب القرآن في قلبه، لكن لا تبتعد كثيراً ليجدك بجانبه متى احتاج نصحك وإرشادك .

تقاسم مع طفلك وتدبرك القرآن بصحبته ولو لجلسةٍ واحدةٍ في الأسبوع ينمي لديه موهبة الحوار البنّاء ويذكي لديه أسس الحوار السليم وينمي منطق لبِّه ناهيك عن كونه يعمق العلاقة بينك وبينه ويضفي عليها نوعًا من الصداقة المحببة. هذا من الجانب العملي، أما الجوانب الأخرى فميادينها لا تحصى.. مع كل عام كنتُ أكبر فيه كنتُ أعشق أكثر، لا أخفي عليكم أن القرآن يهذّب النفس، علم طفلك القرآن من صغره والقرآن سيتكفل بتربية نفسه وتعميق مكارم الأخلاق لديه، لا أنظر للأمر بمثالية لكن على الأقل هكذا كانت قصتي مع القرآن.

مثلا حين تقرأ  قوله تعالى: "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ستتعلم أسس الجدال والنقاش السليم حين تبحث في معنى بالتي هي أحسن، وحين تقرأ سورة الأخلاق والآداب "سورة الحجرات" ستتعلم أسس أخلاق الإسلام الرفيعة بما فيها من لباقةٍ واحترامٍ للآخر، اقرأ في أول سورة المائدة مثلاً وتعلّم أحكامًا فقهية.. انتقل من مكانٍ لآخر بين آياتِ القرآن لتتعلم أحسن القصص وتستمع بسرد القرآن لها كقصة الخِضر وسيدنا موسى، وقصة سيدنا يوسف، قصة النملة مع نبي الله سليمان، قصة سيدنا موسى مع فرعون، قصة أصحاب الأخدود وكيف ثبتوا على إيمانهم، قصة الفتية الذين آمنوا بربهم (أصحاب الكهف) ، ثم عش مع رسول الله بعض مواقف حياته ومعاركه كمعركة بدر في سورة الأنفال، ثم تعلم التفكر في خلق الله مع سيدنا إبراهيم حين تفكر، ثم أدرك أهمية العلم والقراءة مع سورة العلق في أول آية نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، وأدرك أهمية بر والديك في: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) وتعلم أي الناس يحب الله مع نهاية الكثير من الآيات. لا تنتهي المحطات التي تأسر القلوب في القرآن، لا يُمل بل يسكن أعماق القلب ويأسِره.

هو الحياةُ لقلوب المتعبين، ملاذهم من كدر الدنيا، وبلسمٌ لقلوب المؤمنين، سكناه في قلبك يعمره، وسكناه للسانك يفصحه، معه ينمو منطقك بسلام ويمتلك دماغك القدرة على الربط والتحليل وينمو خيالك، لتكون صاحب فطرة سليمة وسيد الأخلاق واللباقة بين صحبك، صاحب ذوق رفيع وذو حياء في موضعه الصحيح..

 لغة القرآن هي الأكثر فصاحةً وبلاغةً من أيّ كتابٍ نحويٍ تعلِّمهم إيَّاه.. بالقرآن تجدهم مهذبي النفوس أصحابُ أخلاقٍ راقيةٍ
 لغة القرآن هي الأكثر فصاحةً وبلاغةً من أيّ كتابٍ نحويٍ تعلِّمهم إيَّاه.. بالقرآن تجدهم مهذبي النفوس أصحابُ أخلاقٍ راقيةٍ
 

أطفالنا أمانة في أعناقنا، فكما تنمو أجسادهم بالطعام والشراب ينمو فكرهم بالقرآن، فإنك إن أقصيت أطفالك عن القرآن فإن عاقةً فكريةً في أبناءك تنشأ.. علِّم أبناءك كيف يطبّقون ما يتعلمون وما يفهمون من القرآن على أرض الواقع.. علِّمهم أن الإعداد واجب (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ).. علِّمهم أن الله قريب وأن الشكوى لغير الله مذلة وأن يطلبوا حاجاتهم بعزة الأنفس فكلها بيد الله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).. علمهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين.. (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) آل عمران: 28. علِّمهم وفقهِّم في سنن الأمم الماضية ليستشِّفوا بمنطقهم السليم أحداث المستقبل فسنن المجتمعات تتكرر وتدور.. علِّمهم أن من ابتغى العزة بغير الله أذله الله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا). وهناك الكثير الكثير مما تستطيع أن تُسقِطَه على حياتهم واقعًا من وحي القرآن الكريم.

وكن واثقًا أن القرآن نورٌ ينير قلوبهم ويفتح أعينهم ويعدِّهم لمواجهة هذا العالم، وتأكد أن من اعتاد لسانه على القرآن سيكون فصيحًا حكيمًا بليغًا لأنَّ لغة القرآن هي الأكثر فصاحةً وبلاغةً من أيّ كتابٍ نحويٍ تعلِّمهم إيَّاه.. بالقرآن تجدهم مهذبي النفوس أصحابُ أخلاقٍ راقيةٍ واتزانٍ ورزان قلَّ ما تجده في أقرانهم. في النهاية أقولُ أن تنشأة أطفالنا وِفق قواعدَ وأسسٍ سليمةٍ أكثرُ ما يجب أن نحرص عليه.. ففي وقتنا الراهن ستتنافس أشياء كثيرةٌ على امتلاك نبض قلب طفلكَ وشغفه.. فعوِّده منذ الصغر واجعل القرآن نبض قلبه لنقول بكلِّ ثقةٍ أن أطفالنا.. في حَلبةِ النَّبض ينتصرون بالقرآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.