شعار قسم مدونات

خطيبنا المُمل الذي أدمن اغتصاب اللغة!

مدونات - دعوة

يقعُ أقربُ مسجدٍ من بيتنا على مَبْعدةِ عَشْرة أمتارٍ، مسجدٌ أبيضٌ صغيرٌ له مِئْذنةٌ أقل ارتفاعًا من جميع البيوتِ المجاورةِ، خطيبُ المسجدِ رجلٌ لطيفٌ، مُمْتلئ إلا قليلًا، إمامُ أوقافٍ، أيْ أنه يمْتهنُ الخطابةَ والوعظَ، ويشهدُ اللهُ أنَّه لم يكن يُجيدُ أيًّا منهما. كانَ لِهذا الشيخِ نظامٌ لا يَحِيدُ عنه، وترتيبٌ لا يُخْطِؤُه. تدورُ خُطَبُهُ في فَلَكَيْن اثنين، لا تُفلِتُ مِنن مداراتها، ولذا فإني لا أبالغُ إنْ قلتُ أني حفِظتُ خُطبَ الشيخِ حفظًا يكادُ يبلغُ حدَّ الاستظهار، كيفَ لا؟ وقد قضيتُ أعوامًا خمسة، أي ما يُقاربُ المئتين وستين خطبة، وأنا أستمعُ لِخُطَبِه، لم أضيّع منها إلا عشرةً على أقصى تقدير. وقد كان -سامحه الله- رجلًا فلاحًا، جُلُّ وقته مُكرَّسٌ للحقلِ والدَوابِّ؛ فلم يكنْ يفرغُ لتجهيزِ خطبته إلا قبلَ الصلاةِ ببضعِ ساعاتٍ، مما قَوَّى بداخلي اعتقادًا بأنه يُجهّز خطبته بطريقة "الفلاش باك".

 

يطلع علينا العام الهجري الجديد، فيخصص خطيبنا ثلاث خطب تتحدث عن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتبعها بفضل شهر الله المحرم ويوم عاشوراء، وكيف أن الله نجى نبيه موسى من بني إسرائيل، يتخلل ذلك خطبة أو اثنتين عن "الحلال والحرام"، ثم يعود سيرته الأولى في حديث متصل عن الأيام التي فضلها الله، فتجد أن شهر ربيع الأول مكرس للحديث عن ذكرى ميلاد الكريم -صلى الله عليه وسلم-، الخطبة هي هي، والحديث هو هو، لكنه في الخطبة الأولى يقول: "ونحن نقبل على ذكرى ميلاد النبي ما أحوجنا جميعا إلى التحلي بصفاته الكريمة!"، ثم يعود في الثانية فيقول: "ونحن نعيش في ذكرى ميلاد النبي، ما أحوجنا جميعا إلى…"، ثم تأتي الثالثة، تتحفز لخطبة جديدة تكسر رتابة الأحاديث التاريخية المرتبطة بالأيام، لكنه بعد أن يحمد الله ويثني عليه يفجئوك بقوله: "ودعنا منذ أيام ذكرى ميلاد النبي، فما أحوجنا جميعًا إلى..".

 

كان حفظه للشعر واستشهاده به شيئا نشازا مُنكرًا، وويل ثم ويل ثم ويل.. لمن أحب اللغة يومًا، وحملته الأقدار إلى مسجدنا هذا ليجلس إلى شيخنا هذا، فيرى تسفيحه للغة واغتصابه لها

وهكذا، لم يعد التكهن بعنوان خطبة الجمعة وموضوعها يشغل أدنى حيز من تفكيري، فبحركة صغيرة من أحد أصابعي أقلب ورقة التقويم، فأعرف أن اليوم يوافق الجمعة الأولى من إبريل، فأعلم أن شيخنا سيتحدث عن يوم اليتيم ويعيد الخطبة ذاتها، بنفس الحديث الضعيف الذي يردده، وبنفس اللعثمة، وأصحو ذات يوم مبارك فأكتشف أن شهر "رمضان" على الأبواب، فأجهز نفسي لوجبة دسمة من الخطب العتيقة طوال الشهر كله، من قبيل ما كان يحدث في ذكرى ميلاد النبي، ويأتي العيد، فتتنبه -ضمنيا- أن هناك خطبتين من العيار الثقيل عن "فضل صيام ستة أيام من شوال" في طريقهم إليك، فلا مفر منهم ولا مناص.

 
والحق أقول؛ أن الشيخ وخطبه قد اجتذبوني اجتذابًا، ليس لجودتهم -لا سمح الله- أو لكاريزما الشيخ وحضوره المبهج، فقد كان جهوري الصوت عاليه، يغمض عينيه طوال الخطبة، فلا يفتحهما إلا حين يفرغ أو حين يخطب عن الحلال والحرام، وقتها كان يعدد كل آيات الكتاب وكل الأحاديث الشريفة التي تتوعد الظالمين وآكلي الحرام والسحت، ويتكثر من كلامه ويستزيد، وهو في هذا كله لا يوجه كلامه إلا لرجل مستند على جدار المسجد الخلفي، لا تتحول عينيه عنه طول الخطبة، علمت بعدها أن هذا الرجل أغاظ شيخنا واختلس من ماله عن طريق "الفهلوة".

 

فتح الله على شيخنا في المال وأنعم عليه بأطيان ووظيفة وعيش رغيد، إلا أن الله لم يجعل له من متطلبات مهنته حظًا ولا نصيبًا، كان أجهل أهل الأرض باللغة العربية، وأكثرهم لحنًا في كتاب الله، وقد كان هذا سببًا كافيًا لإقامة حجاب سميك بين النوم وعيني، أثناء خطبه، يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم يندفع في عنف يضرب بقواعد اللغة عرض الحائط؛ فينصب الفاعل ويجره في آن، ويأتي على المفعول فلا يعفيه من الجرِّ، يعطف ثلاث كلمات على بعضهم، فينصب الأولى ويرفع الثانية ويجزم الثالثة، وهو في هذا كله متمسك بنصب المؤنث السالم المجموع بالفتحة، قال في ذلك مرة: "لم يركبُ الصحابةُ السياراتَ الشيفورليهات.َ"، أي والله!

 
وقد كان حفظه للشعر واستشهاده به شيئا نشازا مُنكرًا، وويل ثم ويل ثم ويل.. لمن أحب اللغة يومًا، وحملته الأقدار إلى مسجدنا هذا ليجلس إلى شيخنا هذا، فيرى تسفيحه للغة واغتصابه لها، فيحس أن خطبة الجمعة قد استحالت من لقاء أسبوعي متجدد، يعدل للناس ما اعوج من أمر دينهم ودنياهم، إلى وسيلةٍ من وسائل التعذيب النفسي. وليس من الإنصاف في شيء أن نطلق تلك الأحكام على كل الخطباء ونمضي -في جَورٍ- نقاتل لإثبات هكذا افتراض، وإني ممن يحسنون الظن في قرائهم، ولا أظنهم إلا منتبهين عن الوقوع في فخ تعميم كهذا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.