شعار قسم مدونات

عناوينُ.. كذّابة أم جذّابة؟!

blogs الصحافة

لِعناوين المقالات، والقصص الصّحفية والإخبارية، والمدونات ونحو ذلك، أهميّة كبيرة، لا تخفىٰ على أهل الصنعة الأدبيّة، فلها كغيرها من الفنون سمات وأنواع ووظائف، وربّما أخذ اختيار عنوان رشيق مناسب للمادة وقتًا أطول من وقتِ كتابة المادة نفسها.

مِن العناوين التي صار استخدامها شائعًا في يومنا كثيرًا، ما ترىٰ ظاهرها جميلًا يسرُّ أعين النّاظرين، ويفتنُ قلوبهم، فيقدِّرُ القارئ أنَّه سيقرأ مكتوبًا يطيرُ مِن بديعِ حرفِه عجبًا، ولو كان في غير اهتماماتِه وتوجهاته؛ ثمّ يُصدَم القارئ أنَّ العنوان في وادٍ، والمقالة في واد آخر! أيْ ربّما قرأتَ عنوانًا في المحبّة، يوحي بالمودَّة، وما يُدوَّن تحته ينسفه نسفًا، ويذره قاعًا صفصفًا؛ لما فيه مِن أضداد وتناقضات للعنوان ذاته، وهذا سببه قفز الكاتب بخيالاته قفزةً أبعدته عمّا يريد، وكذا الحال في أسماء بعض الكتب والمؤلّفات، ترىٰ عنوانها في دمشق، والمسطور على عمومها في طنجة! وانتبه بعض الأدباء والنقاد إلى هذا الأمر، وأشاروا إليه في كتاباتهم.

كم من جماعةٍ لبست ثوب المقاومة، ولفَّت عمامة الممانعة، ثمّ زيَّنت للناس خطاباتها، وجمَّلت عناوينها، فجعلتها في أبهىٰ حلّة، وأحلىٰ منطق؛ ثمّ أضاعت طريقها

فمتىٰ سيدرك بعض كُتَّاب الصّحف والمدونات أنَّ الفرقَ كبير، والغرض بعيد، بين (العنوان الجذّاب) الذي يجذِبُ القارئ إليه، ويأخذ به للمادّة، دون أنْ يتعدىٰ حدود المكتوب، ولا يتجاوز فحواه ومرماه، ويرتبط به ارتباطًا سليمًا صحيحًا، وبين (العنوان الكذّاب) الذي صار استخدامه يُعلّل بدعوى التشويق والإثارة، وهذا من الفهم الخاطئ للتشويق، فمثل هذه العناوين تخلق في نفوس القرّاء شَكًّا وريبةً من كلّ عنوان متين رصين، حتّى تصبح العناوين عند الناس لا تدلّ إلّا على باطنٍ يتضاربُ معها تمامًا.

وإنْ كان -أيّها الكُتَّاب- بين (كذّاب، وجذّاب) بعض تقارب سجعيّ جناسيّ، فلا يعني -يرحمكم الله- أنّ بينهما قليل توافق في المعنىٰ أو المراد. لا بأس من استخدام عنوان فيه شيء من الإبهام في (بعض) المواطن، -وإنْ كانت العناوين الواضحة الجلية أفضل وأمثل-فإذا استخدمت، فلا بأس أيضًا من إيضاحها وبيانها للقارئ!..

أزمةُ العناوين أزمةٌ كبيرة، تجاوزت دائرة المقالات والأخبار والكتب، وتخطّت الفنون والعلوم، وامتدّت حتّى وصلت إلى بعض الأنظمة والجماعات والأفراد، التي تتخذ من الخطابات والعناوين الخلّابة، والهتافات الساحرة شعارًا ودثارًا لها، وهي لَعَمْر اللهِ أبعد ما تكون عنها، فكم أبصرنا أنظمة -هوىٰ بعضها، وبعضها ينتظر- كانت قد خدعت شعوبها سنين عددًا، وأشبعتْهم أقوالًا وكلامًا، وجوّعتْهم حقوقًا وطعامًا.

وعلى ضوء تلك العناوين والشعارات، ادّعت محاربة الفساد وإقامة العدل، والتّصدي للظّلم وظلماتِه وبعث النور في مجتمعاتها، والقضاء على الإرهاب والتطرف؛ وهي صفات لمن عقل، تفرّقت في أفرع تلك الأنظمة وأغوارها، وتجمّعت بها: وكم قلتَ أمراضَ البلادِ وأنتَ مِن أمراضِها! وكم من جماعةٍ لبست ثوب المقاومة، ولفَّت عمامة الممانعة، ثمّ زيَّنت للناس خطاباتها، وجمَّلت عناوينها، فجعلتها في أبهىٰ حلّة، وأحلىٰ منطق؛ ثمّ أضاعت طريقها، وضلّت سبيلها، نحو الغاية المزعومة. 

المكتوبَ ليس كما تتوهمه النّاس (يُعرَف مِن عنوانه)؛ بل لكي نعلمَ صحّة وصدقَ عنوانِك.. أرِنا ننظر مكتوبك وفِعالك!
المكتوبَ ليس كما تتوهمه النّاس (يُعرَف مِن عنوانه)؛ بل لكي نعلمَ صحّة وصدقَ عنوانِك.. أرِنا ننظر مكتوبك وفِعالك!
 

وإنّك إذا تأمّلت -أخي القارئ- في الأسماء الجميلة لبعض تلك الجماعات، ستَحسَبُ أنّ بيننا وبين استعادة أمجادنا الضّائعة، واسترداد أراضينا المحتلّة طرفة عين.. أو أدنىٰ! بل وإذا تعمّقت فيها كثيرًا، وتدبرتَ معانيها طويلًا؛ سيَخيَّلُ إليك مِن سحرها أنّك في ساحة الأقصىٰ تسعىٰ، أو في ربيع قرطبة تمرح وترتع! وكم من امرئٍ كانت الناس تظنّه صالحًا عابدًا، تقيًّا ورِعًا، ثمّ لم يتورّع أنْ يقفَ إلى جانب الأنظمة المستبدّة في حكمها، الظالمة لشعبِها؟ فلولا الزيف والزور في مظاهرِها، والتدليس في عناوينها لما خُدع بهم أحد.

لم تكتف الفئة الأخيرة باتّباع الهوىٰ، والانحياز لمن طغىٰ، بل أعطت للطغاة رخصة لسفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وتجريم أحلام الشباب العربي البسيطة، واعتقال أخيارهم، وكتم أفواههم، وتحويل ربيعهم (والعياذ بالله)!-في خطاباتهم المنبرية- إلى خريف وجحيم؛ لوأد ما يصبون ويتطلعون إليه من عيشٍ كريمٍ وعدلٍ قويم، لا يُعكّر صفو سمائِه ولا يُكدِّر طِيْب أرضِه، ظلم سلطة، أو جور سلطان، ألا خابت هذه المساعي! فالبيِّن أنَّ المكتوبَ ليس كما تتوهمه النّاس (يُعرَف مِن عنوانه)؛ بل لكي نعلمَ صحّة وصدقَ عنوانِك.. أرِنا ننظر مكتوبك وفِعالك!..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.