شعار قسم مدونات

المتاحف.. ثقافة منسيّة في العالم العربي

مدونات - متحف بيت كريستوبال
إن كنت من أحد البلدان العربية، كم مرة زرت متحفاً أو قمت برحلة مدرسية إلى متحف المدينة؟ لعلها ترتفع بعض الأيادي الخجولة، بأن نعم، كنا قد زرنا المتحف الفلاني عندما كنا صغاراً أو القلعة الفلانية وتجولنا في متحفها الحربي. وهذا جيد نوعا ما طبعا لا ألوم الاشخاص الذين لم يدخلوا متحفاً طوال حياتهم ذلك أن أغلب حكوماتنا لم تكن مهتمة شديد الاهتمام بهذا الجانب الاقتصادي للمتحف والمُدر للمال من جهة ورفع ثقافة ووعي الشعوب من جهة أخرى. لكن لنتحدث عن الجانب الثقافي ونطرح السؤال لماذا تعتبر المتاحف مهمة وما الذي يمكن أن يحدث لو لم تكن المتاحف موجودة أساساً في حياتنا؟

 

بدايةً أود أن اعترف أنني من أحد الأشخاص الذين لم يزوروا متحف مدينتهم الوطني أبدا، ذلك أنني كنت صغيراً، وعندما وَعيتُ بأهمية المتاحف أصبح الطريق إلى المتحف، الواقع على خط النار في مدينة حلب القديمة، من شبه المستحيل الاقتراب منه فضلا عن الدخول إليه. أذكر بعض اللحظات التي قضيتها في متحف تابع لمدينة أفاميا الأثرية الواقع في قلعة المضيق في حماه السورية. ذلك المتحف المشهور بلوحاته الفسيفسائية الجميلة. أرسطو مع الحكماء، وإله البحر أبولو ذو الشوكة الثلاثية، ومجموعة من الرسومات النباتية والحيوانية البديعة، أذكر أن المتحف كان فارغا تقريبا من الزوار، وما ذكره أيضا أنه لم يكن هناك اي اهتمام بتلك الآثار الثمينة من ناحية بناء غرف زجاجية أو منصات عرض تحترم ذلك الأثر بشكل أكبر وتشد الزائر إليه ليتمعنه، بل كانت الآثار متروكة في العراء مع الطبيعة يلعب بها من يشاء أحيانا. هذا يذكرني بواحدة من القصص عن دخول أحد المتطرفين إلى متحف دمشق وبيده عصا كان قد أخفاها ليقوم بتخريب أحد المدافن التدمرية الأثرية.

 

المدينة التي لا تحوي متحفاً يعبِّر عنها أنها هي مدينة بشعة بلا فائدة بلا أفكار مدينة متهالكة، منبوذة لم تساهم في سيرورة الحياة. لكن أين نحن من هذا التفكير المتنور؟

أعتقد أن ذلك لم يكن ليحدث لو أن ذلك المتحف في بلد يراعي حق التحف ويهتم بها أو بسبب الأزمة التي لم تدع بشر لتدع الحجر من شرها. وهنا يمكن أن نطرح الإشكالية العميقة، هل يجب أن نشرّعن نقل التُحف إلى الخارج؟ إذ أن الآثار يجب أن تكون إرثاً لكل البشرية ومن يستطيع الحفاظ عليها وتقدير قيمتها هو الجدير حتما بالاحتفاظ بها، فالمهم بشكل رئيسي ليس امتلاك تلك التُحف بل الحفاظ عليها من الضياع، وخصوصا اننا في زمن نرى فيه الآثار تستباح وتُدمّر على مرأى من الكاميرات وشاشات التلفاز ولا نستطيع فعل شيء شوى التحسر والندم على اننا فشلنا في حمايتها من هؤلاء الهمج اعداء الفن والإنسان. ويبقى ذلك السؤال مطروحا بدون إجابة.

 

الآن انتقلت وأعيش في المانيا في بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها الـ20 ألف نسمة وللمفارقة إنها مدينة متواضعة ماليا وصغيرة الحجم نسبيا يوجد بها أكثر من 7 متاحف، متحف ألعاب، متحف فلك، متحف علوم، متحف السمك، متحف النقود إلى آخره من أنواع المتاحف سواء العلمية أو الترفيهية. الغريب أن ثقافة المتاحف متجذرة في هذه البلدة شأنها شأن البلدات الالمانية الأخرى التي زرتها لكن ما هو الدافع للاهتمام بتلك المتاحف على أعلى مستوى وتخصيص ايام تشجيعية للزوار والقيام بفعاليات خاصة عن شخصيات مهمة أو حلقات فكرية أو حقبات تاريخية معينة لكي تبقى في الذاكرة على الرغم من أنها تتلقى انتقادات تنظيمية كثيرة من اشقاءهم الفرنسيين اصحاب اللوفر الرائدين في أشغال المتاحف.

 

في الواقع المتحف برأيي الكثيرين يعتبر نوع من أنواع ممارسة الفلسفة البصرية هو عبارة عن تشكيلة خلابة يمكن أن نفهمها على انها نوع من التفكير العميق والملهم برحلة آنية عبر آلاف السنين عبر هذا المحتوى المعروض. ليس فقط عن طريق الكلمات أو الشروحات التي تقدم معه إنما عن طريق رؤية هذا الأثر والإحساس به وكأنه شيء حي من الماضي يعيش بيننا وينقل لنا رسالة أو فكرة لشخص أو لرمز تاريخي معين.

  undefined

 

إحدى أهم الخصائص التي تجعلني أقيّم إن كان المتحف جيدا أم لا هو إذا قام بإنعاش لذاكرتي وأعطاني الالهام ودفع في نفسي الفضول لاكتشاف المزيد وذلك خصوصا عندما تشاهد لوحة مشهورة أو أثر عظيم لنحّات أو فنان عبقري. ليس ذلك فحسب انما اهم سمة من سمات المتحف الجيد هو أن تشعر فيه بالأمان وكأنك في منزلك اي تشعر أنك تنتمي لهذا المكان هذه الآثار والأحجار والمعرفة المتراكمة هي التي صنعتك وصنعت حياتنا على ماهي عليه اليوم. لذلك لا يمكن أن اتخيل أنني امر بأي مدينة مهما كانت صغيرة دون أن أمر على أحد أوابدها التاريخية أو متاحفها التي تظهر ارث المدينة وحكايات أبناءها.

أعتقد أن المدينة التي لا تحوي متحفاً يعبِّر عنها أنها هي مدينة بشعة بلا فائدة بلا أفكار مدينة متهالكة، منبوذة لم تساهم في سيرورة الحياة. لكن أين نحن من هذا التفكير المتنور؟ التحدي هو هل يمكن أن ننشر هذه الثقافة ثقافة زيارة المتاحف عبر الاجيال الصغيرة ونعزز تلك الرؤية الغربية وننقلها لشعوب منطقتنا العربية. أعتقد أن السؤال صعب ويحتاج إلى عقود من الزمن لكي ينتشر بشكل بديهي في ثقافة شعبنا. لكن اعتقد بأن هناك إرهاصات عن تشكل ذلك الوعي بأهمية ودور المتاحف في جذب الانتباه والسياح من كافة أنحاء العالم اي الدَور المالي، والدور الأكبر اي الدَور الفني والثقافي الذي يعزز الإمكانات الابداعية للفرد ويعزز التسامح والإحساس المرهف خصوصا عند الاطفال في بداية نشأتهم. وهناك أمثلة وبوادر حاضرة تبعث بالطمأنينة كمتحف اللوفر في أبو ظبي أو متحف الفن الإسلامي في الدوحة وهناك من الأمثلة الكثير ولله الحمد.

 

لذلك ختاما أود أن أشير إلى أن من لم يزر متحفاً فقد فاته الكثير من الافكار. اذهب واكتشف وابحث وستجد نفسك لم تكن مثلما كنت من قبل، إنسانا جديداً يتنفس عبق الفن والتراث يدرك التفاصيل إنساناً متنوراً وذو إحساس راقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.