شعار قسم مدونات

عندما توفيت في المرة الماضية!

blogs الموت

على فراشٍ أبيضٍ ممزوجٍ باللونِ الأحمرِ بفعلِ نزيفِ مستمرٍ من جروحٍ غزتْ جسدهُ وأنهكته، كانت بعضُ الأفكارِ تعصفُ بذهنهِ تلقائياً رغمَ ما يقاسي من آلام، على ما يبدو أن هذهِ هي اللحظاتُ الأخيرةُ في حياته، تتضحُ جداً أمامهُ علاماتُ العالمِ القادم، يشعرُ بِنَفسِهِ في طَرِيقِهِ لِلقَبر وَسَيُوارى التراب قريباً، لحظاتٍ وَيَنتَهِي كُل ما كان قد بدأ، إِنها أكثرُ لَحظَةٍ شَعَرَ فِيها على الإِطلاقِ أَن الموتَ قَرِيبٌ مِنه لِهَذهِ الدَرجة، إِنَهُ لَيسَ قَرِيبٌ فَحَسب بَل إنه قَد بَدأَ فِعلياً بِالتهامِ رُوحِهِ قِطعةً قطعة.

لم يبقَ لهُ في الدنيا إلا أنفاسٌ أخيرةٌ، تلكَ الأنفاسُ هِي آخرُ ما سَيَحمِلهُ مَعهُ مِن دارِ الفَناءِ وإِن أَسعَفَتهُ الصِحةُ وَبعضُ الدَقائقِ وَحَالَفَهُ الحَظُ فَمِنَ المُمكنِ أَن يَأخُذَ مَعهَ أيضاً نظرةً مِن وجهِ أمهِ وَابتِسامةً أخيرةً مِن ثَغرِها وأَن يَسمعَ مِن وَالدِهِ دُعَاءاً طَالمَا دَعاهُ لَهُ مِن قبل، يَدعو بِأن يُتَاحَ لَهُ وَقتاً فَيتوضأ وَيَركع لِلمَرةِ الأخيرة، أَن يُصَلي صَلَاةَ المُوَدِع، يَشتَاقُ لِسُجُودٍ طَويل، فَهُوَ يَعلمُ أَنها قَد تَكون آخرُ اللَمَساتِ بَينَ جَبينِهِ والأَرض. مَحمولٌ عَلَى الأَكتافِ، بَينَ غفوةٍ وَصَحوَةٍ يَسرِي الخَدَرُ بَطِيئاً فِي أَوصالِه، "تِلكَ هِيَ عَلَى الأَغلَبِ سَكَرَاتُ المَوتِ وَإِرَهاصَاتِه" قَالَ فِي نَفسِه، سَمِع عَنهَا كَثِيراً وَلكِن الَتجرَبَةِ كَانَت حَتمَاً أَصدَقُ مِن كُلِ الأَقَاوِيل.

بينَ صَحوةٍ وَغفوَة، يَفتَحُ عَينَيهِ عَلى سوادٍ وَيُغلِقُها عَليه فَلَا يَرَى إِلا أَوهَاماً وَلَا يَسمعُ إِلا هَمهَمَات، وَمِن ثُمَ صَحوةٍ أَخِيرة، نَفَسٌ طَويلٌ ثُم إِغفَاءَةٍ نِهَائِية، أُغمِضَت العينَان إِلى أَن يَأذَن الله بِفَتحِها ثَانِيَةً وَبَدَأت الحَيَاةُ البَرزَخِية، لَقَد عَبَرَ لِلتَو إلى الحَدِ الفَاصِلِ بَينَ المَوتِ وَالحَياة، بينَ وَهمِ الحَياةِ وَحقيقةِ الآخرة، الحَدِ الفَاصلِ بَينَ دارِ العَملِ وَدارِ الجَزاء، ذَلك الحدُ الذي يَفصِلُ بَينَ ضِحكاتِ الأُمِ المستمرة وثغرها البَسام وَبينَ بُكَائِها الذي سَيَستَمرُ طَوِيلاُ بعد الآن، ذلكَ البُكاءُ الذي يَبدأ مِنَ اللَحظَة، إِنها نِهَايَة العالم حَتماً بِالنِسبَةِ لِقَلبٍ كَقَلبِهَا، لا أدرِي إِن كَانَ سَيُنارُ العَالمُ بَعَدَ اليوم بِبَسمَتِهَا أَم أَن نَجمَ الفَرحَةِ دنيانا قَد أَفل.

التعبيرُ والكلام أو ما نسميهِ بالعاميةِ (الفضفضة) من أكثرِ الأمورِ التي تبعثُ في نفسِ الإنسانِ الراحة، أن تفتحَ قلبك بمكنوناتهِ لا باحثاً عن حلولٍ ولكن هارباً من تراكماتٍ طالَ مكوثَها في القلبِ فأنهكته

غَريبٌ هُو إِحساسُ الموت، لَيسَ كَما تَخيلَهُ كثيراً فِي أيامٍ خَلت، خُصوصاً في بلادٍ كَثرَ فيها الموت فَغَدا ذِكرهُ شَيئاً يَومياً تتداوله الألسنة بِبَساطة، تَخَيلهَ شيئاً أَعقد مِن هذا، أم أن إِحساسهُ بتلكَ البَساطةِ يَنبُعُ مِن تَفكيرهِ بِطبيعتهِ البشرية، لكنهُ الآن حَقاً باتَ يشعرُ به، إنه المَوتُ حَتماً، أرخى ظلهُ الثَقيل، جاءَ بِكل مَا يحملُ مِن مَعاني العجز، لا يُمكنُ لِكلِ أبجدياتِ التَاريخِ مُجتمعةٍ أن تشرحَ هَذهِ الأحرف الثلاثة، ولا يَستطيع قلم أعظم الأدباءِ ولا أمهرَ الشعراءِ أن يصفَ هوله، ولا أن يحكي مشاعرَ صاحبه، فصاحب هذا الشعورِ يعيشه لحظاتٍ ثم يُدفن شعورهُ معهُ ويبقى هذا الشعورُ مجهولاً حتى قيامِ الساعة.

إن الإحساسَ بالموتِ هو الإحساس الوحيد في الحياةِ الذي يُجربهُ الإنسان مرةً واحدةً فقط، ويُقال أن الحبَ كذلكَ أيضاً، لا يتذوقهُ الإنسانُ إلا مرةً واحدةً طيلةَ حياتهِ وأن كل ما عدا ذلكَ ليسَ حباً وإنما شكلاً من أشكالِ الإعجاب، وبهذا يتشابهُ الموتُ والحبُ مرةً أخرى بعد ما كانا قد تشابها من قبل في قضيةِ الذي إيقافِ القلوب، وفي الكثيرِ منَ الصفات.

توقفَ القلبُ عن عملهِ وسكنتِ الجوارح، هكذا هو الموتُ إذاً لقد كانَ سهلاً عكسَ كل توقعاته، تمنى لو يجدُ أحداً يجالسه، يحدثهُ، كم هوَ مزعجٌ ذلكَ الشعورُ بأنهُ لا يوجدُ من تخبرهُ عن مكنوناتِ نفسك، أكثرُ ما يزعجُ هو كثرةُ المشاعرِ داخل الإنسانِ وركودها فلا يجدُ من يبوح له، وصاحبنا في ظلِ تلكَ اللحظاتِ باتَ وحيداً، فليتحضر لأسئلة الملكين فقد قَرُبتِ اللحظة، بَحثَ عَن أخيهِ طويلاً ليُفرغَ بعضاً مما سكنَ قلبهُ واكتنزَ داخلهُ لكنهُ لم يجده، بيتُ أسرارهِ باتَ بعيداً عنهُ حالياً ولا يستطيع له عوناً.

التعبيرُ والكلام أو ما نسميهِ بالعاميةِ (الفضفضة) من أكثرِ الأمورِ التي تبعثُ في نفسِ الإنسانِ الراحة، أن تفتحَ قلبك بمكنوناتهِ لا باحثاً عن حلولٍ ولكن هارباً من تراكماتٍ طالَ مكوثَها في القلبِ فأنهكته، أنقصت من تاريخِ صلاحيته ثم أفنته. أكثرَ ما يسلي الإنسان في لحظاتِ الضعفِ والألمِ هو وجود أحدٍ إلى جانبهِ يؤازرهُ ويواسيهِ ورُبما لِهذا الشيءِ تأثيراتٌ مضاعفةٌ عنِ الحقنِ والمسكنات، عندما تنعدمُ القدرةُ وتشعر بفقدانِ الأملِ ينهشُ داخلكَ وتفيض ثقوبَ روحكَ يأساً لا فائدةَ عندئذٍ للفيتامينات، الحلُ الوحيد هو وجود أحدٍ يشددُ من أزرك، يقويكَ وينهضُ بعزيمتك، حينها تستطيعُ أن تقولَ أنكَ وضعتَ قدمكَ في بدايةِ طريقِ الشفاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.